jo24_banner
jo24_banner

في مقدمات الفساد ومدخلاته - الحلقة الثانية

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

لعبت الظروف المحلية والإقليمية والدولية التي كانت سائدة في المجتمعات العربية قبل وبعد مرحلة الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية، دورا ً بارزا ً في تشكيل الملامح البنيوية للنظام الرسمي العربي الذي واكب تشكل الكيانات السياسية أو الدول العربية المستقلة .

حيث ساعدت تلك الظروف بمجملها على أن يقوم هذا لنظام على أساس الاستبداد والتفرد بالسلطة من قبل النخبة السياسية عسكرية كانت أو مدنية، التي قفزت إلى قمة الهرم السياسي في تلك المجتمعات ، وهي خاصية بدت في حينها حرة مقبولة غير مثيرة للسخط الشعبي أو المعارضة العامة لأنها لم تشكل أولوية نبض فئات الشعب التي كانت منخرطة ومتفرقة أكثر بمسألة الاستقلال الوطني وحماية هذا الاستقلال كما أن الظروف لم تكن تسمح لها بأن تدقق بنظام الحكم وبمواصفات هذا النظام وبمواصفات القائمين عليه من حيث الأهلية والصلاحيات بل وطبيعة العلاقة الرابطة بينهم وبين فئات الشعب كما تضمنها الدساتير الخاصة بتلك الدول فالوعي الوطني لم يكن قد نضج بدرجة مناسبة أو كافية ، ناهيك عن البعد العاطفي الذي كان يحول دون ذلك فالنخب السياسية التي حكمت في البلدان الناشئة حديثا ً هي نخب عربية جاءت بعد أزمان طويلة عاشتها شعوب هذه المنطقة تحت حكم نخب سياسية غير عربية ، فكان من الطبيعي أن يسود للوهلة الأولى شعور عام لدى الناس بالانحياز العفوي نحو تلك النخب بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى لا لشيء إلا لأنها عربية بالدرجة الأولى .

بدورها لم تقف هذه النخب موقفا ً سلبيا ً اتكاليا ً على هذا البعد العاطفي ، بل باشرت بطرح برامج للعمل والإدارة داعبت من خلالها عواطف الناس وآمالهم الوطنية منها والشخصية ، الأمر الذي أوحى للفئات الشعبية بمستقبل مشرق واعد ، فهناك من وعد بالتحرير الكامل للإرادة العربية عن الإرادات الأجنبية بل وإلى العمل على توجيه الأمة العربية كما حدث في الحالة السورية والعراقية والمصرية ، وهناك من وعد بتخليص المجتمع من قساوة الحياة الصحراوية القاسية والانتقال إلى الحياة الآمنة تحت سيادة القانون، كما حدث في الحالة الأردنية ، وإن كل النخب التي أحاطت بفلسطين في كل الأقطار اجتمعت على العمل على التصدي للأخطار، ثم تجاوزت ذلك فيما بعد إلى الوعد بتحريرها من الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي .

إزاء هذه الوعود من الساسة لم يكن أمام الشعوب العربية إلا أن تقبل الواقع الجديد والتكيّــف مع مختلف التحديات التي قد تنشأ عن هذا الواقع ولو على حساب الحق في مستويات معيشة أفضل ،أو الحق في المشاركة السياسية. فشكل هذا الواقع خلفية مناسبة لنشوء الاستبداد والتفرد بالسلطة بعد أن صار السكوت عن نخب السلطة والتكيـّـف مع الواقع الجاري هو المزاج الشعب العام.
إلى جانب هذا العامل لعبت حالة الاستقطاب الدولي التي تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الأولى دورا ً في التأسيس لما نسميه بالاستبداد السياسي العربي وتفرد النخب الحاكمة بالسلطة. ذك أن الكيانات السياسية العربية التي تشكلت وبدأت الانفصال عن الإمبراطورية العثمانية بدعم أوروبي (بريطاني – أمريكي – فرنسي ) قد أنشئت في الأصل وهي تحمل في مضمونها نقطة ضعف تتثمل بعجز أي منها عن أن تتطور بالاعتماد على قواها الذاتية المنفردة وصارت التبعية للدول الكبرى وكأنها قدرها المحتوم وبخاصة دول الاستعمار القديم بريطانيا وفرنسا بعد ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وارثة الاستعمار القديم .

رغم ذلك حاولت النخب الحاكمة أن تعمل على تحقيق ما وعدت به الشعوب العربية من حيث الوحدة وتدعيم الاستقلال والنهوض التنموي العام، فتلك استحقاقات لا بد منها لمواجهة الخطر الإسرائيلي الذي شـُـخص على اعتبار انه الأهم على مصالح ومستقبل الشعوب العربية.إلا أن ذلك لم يكن يمر بسهولة بل بصعوبة أقرب إلى المحافظة من قبل كل من بريطانيا وفرنسا، مع إنهما كانتا قد قدمتا العون لانفصال الولايات العربية عن الإمبراطورية العثمانية. رأت كل من الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي في ذاك الواقع السائد في الساحة العربية فرصة سانحة للتدخل السياسي سيما أن الولايات المتحدة كانت تسعى لوراثة بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق بنفوذهما في المنطقة، وكذلك الإتحاد السوفيتي مستغلة دعوات النخب السياسية العربية الجديدة التي تنادي بتحرير الإرادة العربية والاستعداد لتحرير فلسطين ،فالتقت مصالح هذه النخب مع توجهات تلك الدول الكبرى ووجدت الشعوب العربية نفسها وبخاصة في الدول العربية الرئيسية (سوريا ، العراق، مصر) وقد وقعت ضمن دائرة الاستقطاب الدولي وصارت ساحة للصراع والتنافس بينها.وعمل كل منها على نشر أيدلوجيته في هذه الدول العربية أو تلك.فكان إن توزعت تلك الدول بين هذين القطبين لكن ذلك لم يكن ليحدث تلقائيا ً، بل بفعل مخطط استراتيجي أسهمت شعارات كل قطب من هذين القطبين (الرأسمالي والاشتراكي) وتوجهاته الأيدلوجية بدور مهم فيه، وهو مخطط أدى إلى تجهيز انقلابات قام بها العسكر في بعض الدول العربية مثل العراق ومصر وسوريا لصالح هذا المعسكر أو ذاك ودعمه الفعال بصرف النظر عن خيارات الشعوب العربية نفسها التي كانت تعاني من تخلف مزمن بكافة نواحي حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية ويجثم على مقدراتها الثالث غير المقدس الشامل المتمثل بالفقر والجهل والمرض.


لقد أملت هذه الظروف ضرورة أن تتشكل الحياة السياسية والإقتصادية والثقافية في هذه الدول حسب رؤية الجهة التي أوصلت النخبة الحاكمة الجديدة إلى السلطة والحكم، شرقية كانت تلك الجهة أو غربية ، اشتراكية أو رأسمالية.


ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة وبعد قليل من التمرس السياسي للنخب العربية الحاكمة عملت على أن يكون ضمن الآليات اللازمة لتدعيم سلطاتها آلية اللعب على التناقض المزعوم في الموقف والاتجاه بين هذه النخب من جهة وبين شعوبهم من جهة أخرى ، فكان أن قدموا أنفسهم للدول الداعمة لهم بأنهم هم صمام الأمان لمصالح تلك الدولة وحماة تلك المصالح في بلدانهم وليس شعوبهم التي صوروها على أنها ليست رافضة فحسب لتلك المصالح بل ومعادية لها وهدفها الدائم هو التخلص من التبعية سواء كانت مصالح أو إملاءات وتدخلات أو ثقافة .
من الطبيعي في مثل هذه الظروف أن تبدو طبقات السلطة بنظر االدول الداعمة لها كأنها أحرص من الشعوب على تبني هذا النمط الحياتي المنحاز للغرب أو للشرق في مجمل نواحي الحياة في المجتمع سواء على مستوى المشاعر الحقيقية أو على مستوى الأفعال وبالتالي فهي بحاجة إلى الدعم كي تحمي نفسها من شعوبها المتناقضة معها.وحتى تتمكن من أن تكبح جماح تلك الشعوب الرافضة لتوجه النخب السياسية نحو الخارج والمتماشي ثقافيا ً مع ذلك الخارج ومعنى ذلك أن طبقة السلطة بحاجة لأن تكون تسلطية ومستبدة من جهة ومن جهة أخرى هي بحاجة إلى دعم (الشريك) السياسي الذي أوصلها للسلطة لمثل هذه السياسة او المنهج في الحكم ، فكانت النتيجة كما تشير الدلائل أن طبقات السلطة في المجتمعات العربية قد حصل على هذا الدعم ،وأطلقت يدها في أن تحكم كما تشاء وكيفما تشاء. وبذلك يتضح الدور الذي لعبته عملية الاستقطاب الدولي في مجال تدعيم مناهج الحكم التسلطية والاستبدادية في المجتمعات العربية ،إذ جرت العادة أن تدعم الدولة الكبرى المتبوعة طبقة السلطة في الدول العربية التابعة لها ليس فقط ضد المؤامرات الخارجية عليها فحسب بل ضد أي حراك شعبي داخلي ضدها من جهة اخرى بصرف النظر عن أي اعتبار آخر فكان الاستبداد السياسي هو النتيجة وكانت قد تشكلت بذلك الحضانة النموذجية للفساد وبشتى صوره في بلادنا .
فمن الحقائق الراسخة والبديهية في علم الاجتماع السياسي أن الاستبداد السياسي يؤدي بطبقة السلطة إلى الفساد حيث لا قانون ولا مساءلة تكون على هذه الحالة. ومن طبيعة البشر أنهم إذا ما أمنوا العقوبة أو المسائلة تسوء أخلاقهم لقد ساءت أخلاق طبقة السلطة في المجتمعات العربية وعمت مظاهر هذا السوء من رشوة واختلاس ومحاسيب وتحيزات واستزلامونهب للمال عام وحسابات خاصة وتحويل مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية إلى ما يشبه المليشيات الخاصة التي لا تعمل للوطن بقدر ما تعمل للأشخاص ليس لكل الطبقات بل لطبقة السلطة.

لقد نجحت طبقة السلطة في إقناع قادة هذه المؤسسات وأفرادها بأنها وجدت لخدمة طبقة السلطة في الأساس التي يجلس على قمتها رأس الدولة في البلدان العربية وخلطت ذلك بمفهوم الوطنية والحفاظ على استقرار الأوطان وأمنها. ولتحقيق ذلك اتبعت طبقة السلطة وسائل وأساليب منها : التفرد في انتداب قادة ورؤساء هذه المؤسسات وتعينهم في مراكزهم وإبعاد الشعب أو أية جهة تمثل الشعب عن هذه العملية.إضافة إلى الرشوة التي تأخذ شكل هدايا في مناسبات مختلفة بذريعة أنها مكافآت على الأداء المميز لهذا المسؤول أو ذاك أو إطلاق يده بأموال يمكن أن نسميها (بالأموال المؤهلة للسرقة أو الاستيلاء) ونعني بها الحسابات السرية أو كما يسمونها إذ لا مساءلة عن هذه الأموال للإغراء بنهبها فإذا نهب ضعف وإذا ضعف وقع في الفخ وصار آلة مملوكة لطبقة السلطة لا يملك إلا أن ينفذ ما تريده تلك الطبقة وإذا لم ينفذ أو تمر تنشأ إمكانية لمساءلته قانونيا ً حولها وكيفية إنفاقها وهذه حالة ترعب النهابون فلا يعصون بعد النهب أمرا ً.


ومن أجل إحكام الطوق على رقاب أمثال هؤلاء المسؤولين وتحويلهم إلى خدم للمصالح الخاصة لطبقة السلطة جرت العادة أن تـُـستبعد من معايير التصعيد لغايات الانتداب لقيادة تلك المؤسسات معيار الكفاءة وأحلت محله معيار وهمي ومزعوم وهو معيار الموالاة والإخلاص على اعتبار أن هذه الموالاة هي ميزة شخصية تميّز هذا الشخص المنتدب أو تميّز مجموعته القرابية عن غيرهم ناهيك عن أساس آخر هو بعض العيوب أو المقالب والنقائص في السيرة الشخصية له أو سماته الشخصية كي يسهل ابتزازه اعتمادا ً عليها إذا ما فكر في أن ينحرف للحظة عن الخط المرسوم له كخادم مطيع لسيد مطاع.


إن الأشخاص الذين يتم تصعيدهم لإشغال تلك المراكز القيادية على أساس الولاء وليس الكفاءة في أي مجتمع يتصرفون عادة بطريقة تظهر ولاءهم المطلق الشديد لطبقة السلطة صاحبة الفضل الأول والأخير عليهم . وحتى يصل هذا المعني إلى طبقة السلطة يتصرفون مع أفراد المجتمع أو فئات الشعب المقهورة بشدة وكراهية وكأنهم أعداء له لكي يظهروا انحيازهم المطلق لطبقة السلطة واستعدادهم ليضحوا بكل الشعب في سبيل أمن هذه الطبقة وسلامتها وديمومتها التي ربما تساورهم بعض الأوهام بأنهم صاروا ينتمون إليها فعليا ً ويعدون منها مع إنهم ليسوا كذلك بالضرورة .
لقد دلت الأحداث والتي انتهت إلى وعبرت عن نفسها بالحراك الشعبي العربي إن ذاك الفهم كان ساذجا ً وأسلوب غير موفق للتعبير عن الولاء والإخلاص لأنهم بأساليبهم البيروقراطية التسلطية المبالغ فيها قد زرعوا بذور الكره في نفوس الشعب نحوهم وبالضرورة نحو كل من أسهم في انتدابهم لتلك المواقع لأداء هذه الأدوار. عند هذه النقطة صار المسؤول في أجهزة الدولة المختلفة فقي المجتمعات العربية مدنية وعسكرية وأمنية بنظر طبقات الشعب وفئاته المختلفة وكأنه عدو محسوب على طبقة السلطة التي احتكرت القرار وهـمّـشت الناس وانفردت بعمليات ترقي وتصعيد الأفراد على مقاييسها الخاصة دون اعتبار لمقتضيات العدل أو الكفاءة ، وصار الجميع بنظر الشعب مستهدفين بالتغيير الإصلاحي الذي كان لا بد من انتظاره حتى حانت الفرصة واندلع الحراك الشعبي.

كانت هذه هي الخطوة الأولى في مسيرة الاستبداد من حيث نشوئها، تلتها خطوات كثيرة ومتنوعة تشكل بمجملها عناصر ما سميناها (بالإستراتيجية) التي استخدمتها طبقة السلطة لإحكام سيطرتها على الدولة استبداداً وديكتاتورية في المجتمعات العربية. ومن أبرز هذه الخطوات، العمل على تفكيك المجتمع لبعثرة قواه الشعبية، وذلك ببث الفرقة والضغينة بينهم على المستوى الاجتماعي ، لأن هذه القوى قد تشكل في تجمعها أو اتحادها خطرا ً يهدد مصالح طبقة السلطة التي تخطط وتعمل على دوام سيطرتها واستبدادها عبر آلية رئيسية هي الفساد، إلى جانب آليات أخرى غيرها. ويأتي تفكيك المجتمع من ضمن تلك الآليات الأخرى،وذلك تحسبا ًمن تجمــّـع تلك القوى واتحادها كي تكون أضعف في مواجهة طبقة السلطة عندما تحين تلك المواجهة. وهذا أمر تتوقعه طبقة السلطة من تلك القوى التي صارت تشكل الطرف المقابل لها المتناقض معها، وإنّ ما تقوم به طبقة السلطة سوف يقابل بمعارضة أو مقاومة من قبل أولئك المتضررين من ذلك وهم طبقات الشعب. فبما أن لكل فعل ردة فعل مساو ٍ له في القوة ومعارض له في الاتجاه كما هو في العالم الطبيعي يحدث أيضا ً في العالم الاجتماعي . فكل فعل يقابله فعل مضاد مساو ٍ له في القوة ومخالف له في الاتجاه. إذن وحتى تفوز طبقة السلطة في ميدان هذا الصراع أو التدافع المتوقع، كان لا بد أن تعمل على إضعاف جبهة ذلك الطرف المقابل لها في معادلة الصراع أي جبهة قوى أو الطبقات الشعبية المقهورة والمهمشة فكانت آليتها لتخفيف ذلك هي : عدم العمل على تجميع أطرافه وأجزائه عبر تحديث شبكة الطرق والسكك الحديدية من الناحية الجغرافية وعلى المستوى الاجتماعي العل على نشر الضغينة والفرقة بين فئات الشعب مرّة على أساس طائفي وغيرها على أساس إقليمي وأخرى على أساس جهوي وأحيانا ً على أساس النوع أو الجنس أو العرق أو الدين وإن لم ينفع هذا أو ذاك أو بالإضافة إليها لتدعيم الحبكة فعلى أساس إثارة الضغينة والتماس بين فئات الشعب عبر آلية (الإسكندر) التي اعتمدها للسيطرة على فارس في الماضي السحيق وأعني بها آلية تقريب هذه الفئة من مركز القرار وطبقة السلطة والامتيازات، وإبعاد تلك الفئة عن ذلك ثم العودة وتقريب تلك الفئة وإبعاد الأخرى(بدعوى) الولاء والإخلاص


وهكذا دواليك ، وحتى لا تترك هذه أثراً سلبيا ً تم اختراع مفهوم(التوزيع الجغرافي العادل) إلى جانب المفهوم الوهمي المسمى (بالولاء والإخلاص) ... أي توزيع المناصب وكأنها مغانم وامتيازات توزيعا ً جغرافيا ً ، كي تعم الجميع أو هكذا تسوق المسألة.

إن التوزيع الجغرافي للمناصب منهج فاسد جوهريا ً . فهو يسد الطريق أمام عامل الكفاءة كأساس لإشغال المراكز الفعلية في أي مجتمع من المجتمعات .ناهيك عن خطورة زج هذا العامل وحشره في الذهنية الشعبية كجزء من ثقافتهم لأنه سيعمل في هذه الحالة كعامل تمزيق وتفكيك جهوي للوحدة الاجتماعية لأي مجتمع .علاوة على أنه يعد آلية فعالية لحرمان المجتمع من كفاءات مميزة أحيانا ً قد تُقصى وتـُهمــّـش بحكم الدور والتوزيع .

في الواقع إن تلك الأسس جميعها كانت نافعة وأدت دورا ً وظيفيا ً خاصا ً ومقصودا ً لطبقة السلطة . فقد فعلت فعلها بفئات الشعب وأضعفت قواها الحيّة فتهمش الأكفاء داخل أوطانهم بعد أن تم إقصاؤهم عن مجال التأثير في مجريات الحياة عموما ً بتلك المجتمعات وانفرد بذلك التأثير شخصيات وأزلام مصنوعة على المقاس والقالب.فبدأت المجتمعات العربية تخسر خيرة شبابها وكفاءاتها العلمية بعد أن وجدت هذه الكفاءات نفسها بين خيارين إما الثبات أو المقاومة بهدوء بالعمل على تعبئة الأفراد ضد هذا الواقع السياسي أو الهجرة إلى الخارج فهاجرت تلك الكفاءات بمعدلات متزايدة ليتركوا مجتمعاتهم (سداح مداح) لطبقة السلطة لا تجد فيها مسؤول تؤهله شخصيته أو معارفه أو سيرته الذاتية والعلمية أن يقول (لا) أمام إرادة طبقة السلطة.


لقد تطلعت هذه الطبقة وعملت ما عملته لتحقيقه كأمنية عزيزة وأنجزتها فعليا ً بشهادة استقرارها أمنيا ً على عدة عقود تحتكر السلطة والقرار في المجتمعات العربية دون منافس أو شريك دون اعتبار لما يسمى بالاستقرار الاجتماعي.


ولكي تغطي طبقة السلطة إستراتيجيتها المطبـّـقة التي هـجـّـرت الكفاءات أو همـّـشتها ليتشكل من هذه الكفاءات طابور المغتربين اجتماعيا ً ونفسياً داخل مجتمعاتهم، اعتادت هذه الطبقة أن تحتفي بين الحين والآخر بهذا النابه المميز أو ذاك إذا ما ظهرت نباهته وكفاءته في بلدان المهجر أو إذا ما ظهرت بصدفة غريبة داخل مجتمعه نفسه، لكنها ولكي لا يصبح هؤلاء قدوة لغيرهم اعتادت أن لا تكثر من الاحتفاء بالنابهين وتكريمهم لكي لا يكثر أمثالهم فيزيد الوعي وتأتي المطالبة بالحقوق.فتكون طبقة السلطة قد ورطت نفسها من حيث لا تقصد، ولكي لا يحدث ذلك جعلت من مناسبات التكريم هذه مناسبات قليلة نادرة ولا مانع من أن تضفي عليها مسحة من الحزن كي لا تكون جذ ّابة وبخاصة عندما تكرم بعض النابهين والمميزين بكفاءاتهم وقد بلغوا سنا ً متقدمة وأصبحوا بنهايات الأعمار وهذه حالة إذا ما بلغها الفرد يصبح موضوع محبة للناس لكنها محبة مصحوبة بشيء من الشفقة فيصاحب احتفاءهم به إشفاق ٌ عليه وبشيء من الحزن فتغلف سحابة من الحزن مكان التكريم فتقل إلى الحد الأدنى جاذبية هذه المناسبات فلا يميل إليها كثيرون.

وآلية أخرى لا تقل عن سابقتها أهمية تتبعها طبقة السلطة العربية لإدامة الاستبداد التسلطي في مجال إضعاف جبهة قوى الشعب تتمثل بتطبيق نظرية ((التأزيم)) على حياة المواطنين حتى لا يظل مجال أمام الفرد سوى الاستغراق بحاجاته ولوازم حياته اليومية فلا يعود لديه الوقت للنظر بما يزيد عن ذلك.وكي تنفذ ذلك تركت الأسواق دون رقابة أو مساءلة بذريعة واهية هي الحرية الاقتصادية ولزوميات الخصخصة فارتفعت الأسعار وزادت إلى أرقام عالية تكاليف المعيشة ولمضاعفة قسوة هذا الإجراء جمـّدت طبقة السلطة الأجور بذريعة كبح جماح التضخم فتضاعفت حدة المأساة وصارت طبقة السلطة في إجراءاتها مثل من يقدم الماء المالح للعطشان فلا يزيده ذاك الماء إلا عطشا ً ولا يرويه. كما أغلقت سبل العيش الكريم أمام الأفراد بوسائل عديدة أبرزها عدم قيامها بتوسيع او تخليق وتوليد فرص العمل التي تتزايد بنسبة تعادل أو تقترب من نسبة النمو السكاني،فكان أن انتشرت البطالة وبلغت مستويات مروّعة ما بين (17-30%) من جملة السكان في معظم البلدان العربية. وتتضاعف هذه النسبة إذا ما حسبت على أساس عدد ونسبة القادرين على العمل.
ولمضاعفة قساوة هذا الإجراء على الطبقات الفقيرة والوسطى أوكلت إلى القطاع الخاص والشركاء الإستراتيجيين مهمة تقديم الخدمات من ماء وكهرباء واتصالات ومواصلات بدلا ًعنها فقامت شركات القطاع الخاص بمهمتها بأفضل ما تكون الشروط بالنسبة لها وأسوأها بالنسبة للمواطنين فأصبحت الفواتير بالوعة دخول المواطنين الشهرية بمثابة غرامة قاصمة للظهر عليهم أن يدفعوها ومن موقف في غاية الضعف قانونيا ً أمام شركات تغولت دون رقيب أو حسيب.


لم يقف الأمر عند هذا الحد،فامتدت يد السلطةإلى التعليم الذي ظل هو المسرب الوحيد أمام أبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة العربية للحراك الاجتماعي والطبقي وتحسين مكاناتهم الإجتماعية وإمكانيات عيشهم بكرامة . ولأنه كذلك فقد نـُـظر إليه من قبل طبقة السلطة وكأنه عامل غير ملائم وأنه يتناقض مع جوهر نظرية التأزيم فالأصل حسب منطوق هذه النظرية أنه لا يجد الفرد في المجتمع فرصة لتحسين أوضاعه المعيشية إلا من خلال هذه الطبقة نفسها أما التعليم فهو عامل نشاز يمكن للفرد أن يحصل عليه بجهده الشخصي وعليه فربما يوفر هذا العامل للأفراد أو لبعضهم فرص الترقي أو الحصول على مراكز متقدمة بناء على جهودهم الذاتية وهذا يقلل من تابعيتهم لطبقة السلطة وولائهم لها.


ولمواجهة ذلك عملت طبقة السلطة على أن ألقت بالدرجات العلمية والشهادات جانبا ًلكي لا تصبح أدوات تشغيل أو توظيف أو مطالبة . فقللت من قيمتها بأن عملت على الإكثار منها حتى بمستوياتها العليا ماجستير ودكتوراة عبر الحث على التوسع بالدراسات العليا وغيرها من الأباطيل و أشاعت مقولات تربط مابين الدرجات العلمية وقلة الخبرة في الحياة والإدارة ولكي تؤكد ذلك كانت تتقصد انتداب شخصيات أكاديمية غير مؤهلة لإشغال مواقع متقدمة حتى يفشلوا فتؤكد نظريتها ولا يظل في السوق كأساس للانتداب وإشغال المراكز إلا القنوات الكلاسيكية وقوامها الفاسد المتمثل بالأساس الجهوي للتشغيل و المعرفة الشخصية والاتصال بمسؤول عبر قرابة أو صداقة أو وسائل أخرى مشروعة أو غير مشروعة . هذا يحدث رغم أن الطبقات الشعبية قد استثمرت في التعليم الكثير من طاقاتها المالية والنفسية لكنها طاقات وأموال لم تكن لتزهد بها طبقة السلطة التي لم تشبع، حيث عملت على تحويل الاستثمارات في التعليم أو جزء غير قليل منها إلى جيوبها وحساباتها الخاصة عبر برنامج ما يسمى بخصخصة التعليم العام والجامعي حيث صارت الطبقات الشعبية الفقيرة والمتوسطة مضطرة لأن تدفع ما تملكه من أموال (إذا وجد) إلى أصحاب المؤسسات التعليمية الخاصة الذين هم غالبا ً ما يكونون من طبقة السلطة أو متحالفين معها بعد أن تفننت هذه الطبقة بهذا الأمر وتنفيذه عبر آلية تقنين القبول بالجامعات الحكومية وشروط ذلك القبول التي لا تنطبق على الكثيرين فيضطرون إلى الإلتحاق بالجامعات الخاصة التي تملك طبقة السلطة الكثير منها بشكل علني أحيانا ً وبشكل الشريك الخفي أحيانا ً أخرى.


أما المدارس فقد سدت أبوابها أمام الكثيرين من أبناء الطبقات الوسطى تحديدا ً الذين يسعون إلى تحسين أوضاعهم الإجتماعية بالإعتماد على التعليم اتجه عمل طبقة السلطة نحو جعل البيئة المدرسية الحكومية طاردة للتلاميذ فالتجهيزات الناقصة لا تستكمل وأعداد المعلمين غير كافية ورواتبهم تدفعهم دفعا ً إلى إهمال الجد وعدم الإخلاص في التعليم فيخشى الآباء (المتأملين بالتعليم كي ينقذهم) على أبنائهم فيذهبون للمدارس الخاصة ليدفعوا كل ما لديهم لهذه المدارس التي غالبا ً ما تكون تابعة مباشرة أو بأسلوب غير مباشر لطبقة السلطة بل إن طبقة السلطة قد تعمل على أن تؤسس مدارس يكون القبول فيها طبقيا ً فيضربون عصفورين بحجر الأول الإستحواذ على أموال الناس من خلال الأقساط الخيالية التي يدفعها الراغبون في التقرب من طبقة السلطة لغاية التفاخر ، الثاني خلق أجيال لها ميول طبقية لأن تنفر ولا تميل إلى التعاون مع أبناء الطبقات الفقيرة والمتوسطة فيكون في ذلك إسهام أيضا ً بتفكيك المجتمع على أساس طبقي هذه المرة أو أساس أسلوب المعيشة .

لقد أصبحت طبقة السلطة مالكة لمؤسسات التعليم أو الكثير منها في المجتمعات العربية وصارت تمنح الشهادات والدرجات العلمية التي تحاربها كي لا تكون أساسا ً للتشغيل والعمل بدلا ً من مكرمات طبقة السلطة ومعاييرها المختلفة كما وضحنا سابقا ً وهذا دليل على تخبط هذه الطبقة وتناقضها فهي لا تنظر للامور إلا من خلال بعد واحد هو - في هذه الحالة – مصلحتها في الاستحواذ وامتلاك كل ما يحوز عليه ويمتلكه أبناء الطبقات الشعبية القادر منهم والفقير بهدف إضعاف قدراتهم على مجابهتها والمطالبة بحقوقهم كمواطنين ولو من خلال الآلية التي تنظر إليها بعداء (التعليم ).


إن طبقة السلطة تفتخر بالتعليم ونسبة التعليم وتشجع عليه بالخطب والكلام لكنها تتصرف مع المخرجات البشرية لهذا التعليم وكأنهم زائدون عن الحاجة أو أن المجتمع ليس بحاجة إليهم أصلا ً ،تحتفي بخريجي الجامعات في أيام التخرج وبمناسبات احتفالية حيث تلقى الخطب الرنانة والوعود البرّاقة بل وتبالغ أحيانا ً بأن توصي الخريجين بأن يخدموا بإخلاص في كل المواقع التي سيلتحقون بها بعد تخرجهم، فيرتفع سقف توقعات الآباء والأمهات إلى عنان السماء وهم يرنون إلى أبنائهم وقد صاروا على وشك المباشرة بخدمة الأوطان، فإذا ما انقضى السامر أو المولد كما يقول أهل مصر انضم هؤلاء الخريجون إلى طوابير البطالة وذهبت آمال ذويهم إلى حيث تذهب نفسيا ً أما واقعيا ً فما عليهم سوى أن يرتفعوا إلى مستوى مجابهة التحدي الأكبر هو الانتظار الطويل والبعيد والصبر إلى ما لا نهاية .ويتضاعف الأثر السلبي أكثر في بعض المجتمعات العربية التي تحتفل الجامعات فيها بالخريجين وفق برنامج احتفالي مهيب يرتدي فيه أعضاء الهيئة التدريسية الأرواب المزركشة المهيبة ويتقدمون بخطى واثقة في طوابير منظمة في مواجهة أولياء أمور الخريجين الجالسين على المدرجات وينظرون إلى هذه المنظر الرائع الذي لا يترك لديهم شك بأن باب السماء قارب َ على أن ينفتح لهم ولأبنائهم.
وآلية أخرى تتمثل بأن رفعت طبقة السلطة في المجتمعات العربية يدها عن عملية تشغيل أو توظيف الشباب وأوكلت للقطاع الخاص غير المؤهل بالكثير من الاستحقاقات هذه المهمة واختصت هذه الطبقة بدور المتفرج وليس الحكم أو المنظم كما تزعم،وصارت تتلذذ وهي ترى الشباب يهيمون على وجوههم دون عمل أو في طوابير أمام السفارات الأجنبية والعربية للفوز بفرصة عمل في بلدان تلك السفارات وكأنها علمتهم عندما علمتهم لحاجات الغير من المجتمعات وليس لحاجتها هي. لكنها وللحق أبقت الباب مفتوحا ً أمام الشباب ممن لا تسعفه الظروف في الهرب والفرار إلى الخارج كي يلتحقوا بخدمة طبقة السلطة كحراس لها مباشرة هذه المرّة ولتحويلهم مع الزمن إلى آلات لضرب الأهل والأرحام إذا ما طالبوا في يوم من الأيام بالمشاركة السياسية أو بحقوقهم الأخرى كمواطنين.
حتى الالتحاق بمثل هذه الأعمال الوحيدة المتاحة ( في الأمن ، الجيش، والمخابرات و الأجهزة البوليسية الأخرى ذات المسميات المختلفة في الدول العربية (ولكي لا تبدو سهلة المنال بنظر الشباب فيشك بالهدف من يشك) عملت طبقة السلطة على تصعيب عملية الوصول إلى مثل هذه الوظائف فاخترعت أسلوب الواسطة الذي لا يتحرك إلا برشوة كي يأتي للشباب بهذه الوظيفة على افتراض أنه كلما تعب الشاب في الوصول إلى خدمة طبقة السلطة عبر هذه المؤسسات والأجهزة التي صارت (مخصخصة هي الأخرى) المنحازة لطبقة السلطة وحدها، كلما كان هذا الشاب أحرص على التمسك بها حيث يتوهم أن ما حصل عليه ميزة له وليس لغيره ويتمسك بخدمة طبقة السلطة إذا ما حانت الفرصة التي لا تغيب عن خاطر أو بال أي من عناصر أو مفردات طبقة السلطة صاحبة الإحتكارات والإمتيازات السياسية الوحيدة .أما الطبقات الشعبية لا عليها إلا أن تسعى لكي تحظى بشرف خدمة هذه الطبقة التي تعمل بجد كي تصير مؤلهة ومقدسة وهو هدف يسعى للتعبير عنه بل وتحقيقه كل الفئات المحيطة بطبقة السلطة والمستفيدين منها والمتعاونين معها لأن مصلحتها في ذلك واضحة فشريك المقدس مقدس وصاحب المهم مهم مثله.


وحتى تعبر طبقة السلطة عن تطلعا للقداسة والألوهية أحاطت نفسها بالكثير من الألقاب والمسميات الضخمة وهذه أوضح ما تكون لدى رؤوس هذه الطبقة أو رمزها وهذه الألقاب لا يملك الفرد العادي معها إلا أن ترتعد فرائصه إذا ما أراد مخاطبة أي فرد من أفراد السلطة وبخاصة الرموز الرئيسية أو حتى مجرد النطق باسم هذا الرئيس أو ذاك دون تفخيم أو تعظيم يرضي غرور ذاك الرئيس ويشعره بأنه الأعلى وما سواه فهم عبيد أو أشباه عبيد.

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير