jo24_banner
jo24_banner

ورقة النقاش الملكية "وجهة نظر"

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

معظم ما تضمنته ورقة النقاش الملكية مع تقديرنا له ، لا يثير النقاش ولا يغري به فالمطروح، جملة من المبادئ أو الركائز، وجملة من الخصائص السلوكية والذهنية ، لا يختلف اثنان على أهميتها وهي معروفة ومتفق عليها عالميا، بل ومثبته كحقائق - في كافة كتب علوم الانسان- سياسة واجتماع؛ فهي تمثل بمجملها استحقاقات أو ركائز للديمقراطية بمعناها الحديث ، ليس كمنهج في الحكم فحسب، بل كطريقة في الحياة ، أي كأسلوب سائد في التفكير والاعتقاد والتفاعل المتبادل بين الأفراد والجماعات من جهة وبينهم وبين المجتمع (الوطن) بصيغته الكلية الجامعة من جهة أخرى ؛ليس في الأردن فحسب ، بل وفي أي مجتمع من مجتمعات العالم. ولا خلاف على ذلك وبالتالي فلا نقاش . لكن ما يدعو الى النقاش ، عدة مسائل، المسألة الأولى : الطابع العام للورقة أو أسلوب الطرح وصفة الكاتب والأهمية النسبية لكل ما يقوله.ذلك ان الكثير من المبادئ المطروحة جاءت بأسلوب وعظي ارشادي وتشير إلى رغبة جامحة لدى الملك في تجاوز الواقع الإجتماعي السياسي المأزوم واقعياً، إلى واقع آخر بديل مأمول يمثل ما ينبغي أن يكون الحال عليه في الأردن الديمقراطي،الذي نتطلع جميعاً اليه في الحاضر إن أمكن أو في المستقبل .

ومسألة اخرى تدعوا الى النقاش وهي أن الملك قد ظهر من خلال الورقة وكأنه يقول " اليوم هو بداية تاريخنا ، والانتخابات النيابية هي سبيلنا (مع انها عمليه مختلف عليها ) وعفى الله عما مضى ، دعونا نكون مواطنين صالحين ، ايجابيين ومشاركين ، متحابين ومتعاونين ، لا متصارعين ،أو متفرقين ، نختلف ولا نتفرق ، نتنافس لنتكامل لا لنتقاتل نقطع صلتنا بالماضي الذي سلف ، ولنضحي بذواتنا الفردية وبكل مصالحنا لنذوب في الذات الكلية للوطن حتى وإن لم يذوب هو فينا نُبدِّي مصالح الوطن على مصالحنا الفردية ، فلا نطلب الا بمقدر ما نعطي، وحتى نكون شركاء في المكاسب والتضحيات".

واسترسل الملك يرسم الطريق الذي نصل عبره الى انجاز المواطن الطيب،واسع الأفق،المشارك المعتز بوطنه بمعيار ما أنجز لهذا الوطن، وليس بمعيار ما حصل عليه ذاك المواطن،الذي عليه أن يقوم بواجب المساءلة ويتقبلها كمسؤول ويقبل ما فيه مصلحة للوطن ولو تطوعاً، المفتخر بوطنه ومنجزاته. ورأى أن ذلك لو تحقق لعادت الثقة ما بين المواطن والدولة وربما تزول المشكلات وينصلح الحال.

وهذا طيب ، لا خلاف عليه شكلاً. لكنه نقطة خلاف كبرى من حيث المضامين والدلالات وبخاصة إذا ما نظرنا الى المطالب الكلية هذه على انها استحقاقات له الحق في أن يقولها وفي هذا الاسلوب، على اعتبار أن هذا ما يتوقعه الناس منه بحكم مركزه كأب لا مركزه (كملك).فصاحب الطرح هنا هو (ملك ) ورأس دولة وصلاحيته الرسمية مطلقة عملياً ،(مقيدة نظرياً بالدستور) . يحكمُ مجتمعاً ذي بنية هراركية باتريركية يشغل ضمن هذه البينة مركزين (1) مركز الحاكم ورأس البناء وهو رأس السلطات كلها (وهذا هو مركزه الرسمي ودوره الرسمي) (2) (ومركز الأب) في علاقته بالمواطنين اعتاد ان يمارس فعلياً الوصاية عليهم بطريقة اعتادوا معها أن يعتمدوا عليه في حل مشكلاتهم لعقود طويلة. وكأن ذلك هو (دوره الأبوي)، المقصود هنا ملك الاردن بصرف النظر عن من يكون.

حريته في التصرف لأداء أدواره الرسمية مطلقة قانونياً وفعلياً ، وحريته في التصرف ضمن أدواره الأبوية مطلقة قانونياً ،وبتأسيس دستوري يمنع المساءلة ويجيز الفعل ...و أية شبهة بوجود قيد على حريته، تظل عبثية وبلا معنى مع وجود مادة دستورية صريحة وواضحة تضعه فوق السلطات كلها ورأس الدولة وتحصنه حصانة مطلقة من المساءلة وتحمل أي تبعات عن أي فعل يقوم به ؛ صواباً كان ذاك الفعل أو خطأ، بحكم أنه بشر قد يخطئ. وإذا كان (مركز الاب ) وأدواره الأبوية ، تجيز له أن ينصح ويرشد وقد فعل، وهذا حق ولا خلاف عليه؛لكن الخلاف أن تقف جهوده عند هذا الحد وقد وقف عند ذلك كما توضح الورقة ، وهنا نقف لنتسائل : إذا كانت الركائز المشار اليها في الورقة قد قُصد منها أن تكون تحليلاً للواقع بهدف المساهمة في حل اشكاليته ، فالسؤال هل المطروح في الورقة النقاشية وبالأسلوب الذي طرح يساعد فعلاً على ذلك ؟

لقد ظهر الملك في الورقة وقد استشعر تماماً استحقاقات (دوره الأبوي )فقط، وعليه فقد وعظ،وارشد، ونصح، ولا غبار على ذلك لكن الغبار تكاثف الى أن غطى تماماً على ( دوره الرسمي) كملك . فطالما أن المقصود من الورقة أن تسهم في تحليل الاشكالية الأردنية بهدف حلها ، فالحل لا يقف عند حد الوصف الارشادي تجاوباً مع الدور الأبوي ، بل من المهم أن تكون هناك أفعال واجراءات يمكن له القيام بها من خلال مركزه الرسمي كملك صانع اول للقرار وصاحب سلطة وقوة آمرة بالتنفيذ .... فلماذا جاءت الورقة خالية من الاشارة الى أي شيء من ذلك؟؟ أليس هناك أفعال يمكن القيام بها؟؟؟ ألا يمكن أن تعد هذه نقطة سلبية، مع انها كذلك من وجهة نظرنا، نتساءل ولا نسأل.

ونقطة اخرى : من عادة الأماني والارشادات أن تهمل التاريخ فتنطلق نحو المستقبل تأثراً بالحاضر . مع أن الحاضر هو ماضي المستقبل، كما كان هو مستقبل الماضي ، وليس سهلاً فهم الحاضر بمعزل عن الماضي . ولأن الورقة قد تضمنت جملة أماني وارشادات فكان طبيعياً أن تهمل الماضي ، وهذا ما حصل فقلل ذلك، دون شك من دورها في أن تكون مفيدة لفهم الحاضر، وطالما أنها غير مفيدة لفهم الحاضر؛فكيف ستفيد في فهم المستقبل؟؟؟ اننا لا نراها ستفيد ومع ذلك نتساءل!!!

ونقطة ثالثة : أن المطروح في الورقة قد يفهم وكأنه يعني أن هناك خصائص ومسلكيات وذهنيات يجدر بالاردنيين أن يتصفوا بها لتصبح الديمقراطية نهج حياة سائد لديهم .... وتُحل مشكلاتهم ، وهذا صحيح ولكن ما تجاهلته الورقة هو ايضاح فيما إذا كانت هذه المشكلات وغياب تلك الخصائص عنهم قد هبطت عليهم فجأة من السماء واتصفوا بها دون أسباب تاريخية موضوعية منتجة لها ؟؟؟ نتساءل أيضاً. وعليه فكيف تحل مشكلة أسبابها غير معروفة أو على الأقل: غير معترف بها من قبل الباحثين عن الحل؟؟؟ إن مثل هذه المشكلة تصبح غير قابله للحل كما نرى، نتساءل مرة أخرى .

النقطة الرابعة: إذاكان (غياب ) تلك المبادئ عن حياة الاردنيين و(غياب ) تلك الخصائص عن مسلكياتهم وذهنياتهم هو السبب في المشكلة وفق رؤية جلالة الملك المعبر عنها في الورقة؛ فعلى من تقع مسؤولية التسبب في غياب كل هذا عن حياة الأردنين وعن ذهنياتهم؟ وهل إذا تخلصوا من ذلك، حلت المشكلة ؟؟!! مجرد تساؤل لا يخلو من الاستغراب !!!!

لقد ظهر الملك في الورقة وكأنه يلقي بالمسؤولية عن غياب تلك الخصائص على الناس أنفسهم، إذا كان الأمر كذلك ألا يتناقض ذلك مع استحقاقات دوره الابوي الوصائي عليهم؟؟!! ناهيك عن امكانياته الهائلة للعمل بموجب مركزه الرسمي للحيلولة دون حدوث ذلك لهم .لقد بدا الملك في الورقة وكانه (...) ألقي عليهم مسؤولية ما جرى للأردن، ومسؤولية التخلص منه (مما جرى) !! ثم ألا يؤسس ذلك لنشوء مشكلة أخرى تتمثل بشيوع ما نسميه (بالاتهامية التبادلية) بين الملك من جهة، وبين الشعب من جهة أخرى؟! تساؤل استفهامي !!

هناك بوادر لذلك يهمس الناس بها همساً في الوقت الحاضر!! نخرج من ذلك بقضيتين : القضية الأولى : إن الناس من وجهة نظر الملك كما توضح الورقة النقاشية وبفعل خصائصهم السلبية (التي اقترح عليهم بدائل لها) قد تسببوا في الاشكالية الأردنية التي تعاني منها البلد حالياً، وعلاج هذه الاشكالية،هو فقط في أن يتخلص الناس من تلك الخصائص ويكتسبون ما اقترحه عليهم عملاً، وفكراً وطريقة حياة وتفاعلا وارتباطا من نوع معين بالوطن.... بتعبير آخر لقد ظهر الملك وكأنه يعتبر أن المجتمع الاردني (ثقافة وذهنية واجتماع) سلبي هو السبب في اشكالية الدولة الأردنية ولولا ذلك لما إختلت الاردن (الدولة) وفسد الفاسدون !!

والسؤال : وأين دور الأردن ( الدولة) وأين دور الأردن (كسلطة وحكومة) وفوق هذا وبعد هذا أين دور رأس الدولة وقد مُنح دستورياً صلاحيات مطلقة صار معها هو وأعوانه من طبقة السلطة نخبة النخب ومصدر المكانات الاجتماعية كلها وهم القدوة التي هي موضع التقدير والاقتداء نظرياً ؟؟؟ نحن نتساءل!

لقد جاءت الورقة خالية من ايضاح ذلك الدور على أهميته القصوى !!! وكمحاولة لسد بعض الثغرات في الورقة ،نُذكِّر ببعض المعطيات الموضوعية .
إن ما تحدث عنه جلالة الملك في الورقة يقع ضمن ما نسميه بثقافة الشعوب، وهذه لا تأتي فجاة بل تتمظهر وتسود في أي مجتمع عبر السنين، لتأخذ بالتالي شكل أنماط سائدة وعامة يتصف بها الأفراد. إن المطروح في الورقة يتجاهل حقيقة أن خصائص الأردنيين الثقافية والاجتماعية التي تشكل أنماط تفاعلاتهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الدينية ، وهي خصائص وسمات شخصية ليست آنية،بل هي حصيلة لزمن تفاعلي طويل بينهم من جهة وبينهم وبين السلطة من جهة أخرى ، وتغييرها لا يكون بالوعظ والارشاد وبشكل آني،بل بالعمل وخلق الظروف وكافة المستلزمات الموضوعية اللازمة لذلك، شريطة أن تكون مختلفة عن الظروف التي أنتجت خصائصهم السلبية، وبخاصة فيما يتعلق بالمنهج السائد في العمل السياسي والإداري .وهذا لا يتحقق الا بالأفعال من القادرين عليه وليس من أناس اعتادوا ان يكونوا اتكاليين ولا حيلة لديهم للعمل ، فهل طلبت الورقة ذلك من الاردن(كدولة )؟

فالدولة الاردنية منذ ستين عاماً على الأقل لم تكن دون منهج،في عملها السياسي والإداري بل كان هناك دائماً منهج ربما لم يكن مثالياً بحكم نسبية الظروف، لكنه يظل منهجاً للعمل والسلوك على أي حال. لقد قام ذاك النهج وما زال في جوهره والكثير من تجلياته الممارساتية على ما يمكن أن نسميه (بالاستبعاد الاجتماعي ) ، والإقصاء السياسي والاجتماعي ، وهذه حقيقة لا مجال لانكارها لا علاقة للناس بها، جعلت من الأردن وكأنه وطناً للبعض وليس للكل .

وقد تعايش الأردنيون مع هذا الخلل عقوداً على أمل أن يتعدل الميزان فلم يتعدل . لقد اعتادوا الاعتماد في ذلك على الملك بحكم مركزه الابوي في مجتمعهم بخصوصيته المعروفة ، ودوره الوصائي عليهم (واقعياً ) إن عادة الأفراد في مثل هذه المجتمعات أن ينتظروا الفعل من (الأب) (الملك) وأن يعتمدوا عليه لحل مشكلاتهم . ثم إن نظام الحكم الذي ساد قد شكَّل واقعاً وتصرف بأساليب وجد المواطن نفسه معها ملزماً حتى قانونياً بأن ينتمي لدوائر فرعية قبل أن ينتمي للوطن. منها يستمد الدعم والمؤازرة والمكانة الإجتماعية والحماية . ولم يُنتج الأردن (الدولة) آلية تحول دون ذلك ولم يقدم له البديل الجامع والأهم. فانكفأ وتقوقع على ذاته وعشيرته او أو جهته أو منطقته أو إقليمه أو طائفته . أما الوطن فظل أبعد من أن يلمس له أثراً في حياته، أو أن يدركه بوجدانه، فظل كلمة تقال أو شعار يرفع ولا أكثر من ذلك ولا أقل. فكيف يطلب من المواطن بعد ذلك أن يكون للوطن أولاً او أن يذوب في (همه العام) وهو لا يكاد يحس بوجوده؟ لقد تم تغييب الوطن عن المواطن فغاب المواطن عنه بشعوره ووجدانه. ثم إن المواطن العربي عامة و الأردني على وجه الخصوص ، هو منتج ثقافة صحراوية يسودها منطق القوة وانتزاع الحق بالقوة ، ليس الحق بالمطلق بل ما يراه الفرد نفسه أنه حق ولو كان ذلك لانتزاع لقمة العيش من فم الآخر،فكيف بما دون ذلك أو أقل منه وضوحاً وأكثر تجريداً؟؟إن من يتعايش مع هذا المنطق مئات السنين ثم يجد نفسه في دولة استبعادية اقصائيةخلت مناهجها العملية والتعليمية من آليات تدعم التضامن الوطني والاعتماد الكلي على القوة العامة للدولة لنيل الحقوق؛يصبح مثار للتساؤل والغرابة، أن نتوقع منه استجابة مع منطق العقل والحوار الهادئ الاعتراف بالآخر ومصالحه، واحتمالية صواب رأيه؛ بل وحتى الاعتراف بقوته بأي مجال حتى وإن كان هو الأقوى بالمقاييس العلمية والواقعية كلها .

مثل هذا التوقع هو أقرب الى الخيال منه الى الواقع ولعل هذا يفسر لماذا يفسد هذا الانسان اذا ما صار مسؤولاً ، ولماذا لا يعترض إذا رأى وقد أقدم الآخرون على ذلك بل يصبح همه ان يتقرب منهم لعله يشاركهم الغنيمة.
قد لا تكون هذه صفة مسلكية واخلاقية ايجابية فيهم، لكنها وجدت كواقع تم انتاجه وأحاطت بهم ظروف كثيرة شجعتهم على ذلك. فانخفضت خاصية المبادرة أو المشاركة لديهم و مالو الى الاتكالية على الملك ... الذي ظهر في الورقة وكأنه يأخذ ذلك عليهم ويطلب منهم (الشفاء) منه كمرض دون طب أو طبيب.

ليس هذا فحسب بل أن النظام الاستبعادي الإقصائي الذي أُخضع له الأفراد في المجتمع الأردني، قد خلق شعوراً عاماً، بأن الاردن ليس لهم، لكنه لبعضهم فقط. فاعفت أكثرية منهم نفسها من القيام بكثير من الواجبات لتنشغل أكثر بالمطالبة بحقوقها المنكرة عليها و بالبحث عن وسيلة يصلون من خلالها الى تلك الحقوق ولو كانت فاسدة بل وبالصعوبات الجمة التي تقف في الطريق إذا ما حاول الواحد منهم أن يحصل بأساليب شرعية على أدنى حق من حقوقه. ولا سبيل الى ذلك الا بوساطة من هذا المسؤول أو ذاك ، فعمت مشكلة الوساطة وساد التحيز ، وتبعتها الرشوة ، فضعف المواطن أمام المسؤول، وتهافتت كرامته امامه ،فتجرأ المسؤول وصار في مأمن من رقابة ذاك المواطن الضعيف ، فساعد ذلك الى جانب عوامل اخرى ليس على انتشار الفساد بين العامة فقط بل وفساد المسؤولين أيضاً. إن هذه ظروف كان المواطن الأردني ضحية لها، وبدلاً من مساعدته ... جاء اليوم الذي يقف فيه الملك (رأس الدولة ) أو (الأب) يأخذ عليه هذه السلبية ويطالبه بالقيام بواجباته في مجال المساءلة ومراقبة المسؤولين ونقاشهم!!

ثم إن النهج الاستبعادي قد انتج طبقية واضحة من منظور المكاسب والامتيازات، فالبعض له كل الإمتيازات ، والغالبية ليس لها الا التضحيات ، وبدلاً من العمل على إنصاف هذه الاكثرية يأتي اليوم الذي يأخذ به رأس الدولة على هذه الأكثرية أن تطالب بأكثر مما تعطي وكانها تأخذ الكثير؛ ويذكرها بأنها شريكة في المكاسب والتضحيات مع ان كل دلائل الواقع تشير بأن لا نصيب لها إلا من التضحيات اما المكاسب فهي من نصيب القلة من طبقة السلطة المستديمة. فهل تستوي تلك المطالبة مع منطق الحق والإنصاف حتى النسبي من هذه المنطق ؟؟!! نتساءل فقط.

من عداد البديهيات علمياً إن المجتمعات تربى كما يربى الأفراد ويُطبّعون . والقدوة الصالحة عنصر حاسم كاداة تغيير في حياتهم. إن الأنماط السلوكية النموذجية بشكل عام تنزل من اعلى إلى أسفل علمياً. والنخب في المجتمعات هي الأعلى وعنها تصدر النماذج السلوكية وتعم بين الفئات والأفراد العاديين الذين هم دونهم في الهرمية الطبقية . وفي المجتمعات المتخلفة ينظر الناس إلى النخب السياسية على انها نخبة النخب منها تصدر النماذج والناس لها مقلدون . فهل شكلت النخب السياسية في أردن ( الدولة) مصدراً للنماذج السلوكية الايجابية ؟ واقع الحال يشير الى عكس ذلك ، إذن من الطبيعي أن نستنتج ان المشكلات والأمراض من فساد وغيره أو خصائص شخصية سلبية التي انتشرت بين المواطنين، لابد أنها وجدت أولا وانتشرت لدى المسؤولين قبل أن تنزل إلى عامة الناس وسادت بينهم بالاقتداء والإتباع، أو هكذا يمكن ان نفترض إذا صحت ما تسمى (بنظرية التقليد والمحاكاة) وهي صحيحة دون شك وإذا كان ذلك كذلك . فهل من العدل أن نأتي ونأخذ على الناس انهم يتصفون بصفات سلبية وكأنهم هم مصدرها، ونتمنى عليهم ان يخلّصوا أنفسهم منها ، في حين لا نطلب من المسؤولين مثل هذا الطلب ، ونبقيهم في معزل عن أية مسؤولية عن ذلك؟

لقد جاءت الورقة وقد خلت من أي دور للملك يتوقعه الاردنيون منه حسب مركزه كملك ممارس للسلطة الفعلية ، كما خلت من أية اشارة لأي تغير مرغوب فيه أن يحصل في مجال الدولة كمنهج للإدارة والحكم،وكنخبة سياسية وإدارية طالما كانت هي القدوة للناس في المجتمع فأوردتهم موارد الهلاك ... لاتغيير طالب به الملك في هذا الجانب الرسمي من حياة المجتمع والدولة بل أن التغيير الذي بشّر به مطلوب من الناس فقط وليس من الدولة أو الحكومة او النخبة الساسية، الطبقة النموذج المُقتدى بها. فهل هذا مطلب عدل ؟وما نصيب هذا المطلب من العلم والموضوعية؟؟؟؟ والى أي مدى يمكن أن تسهم الورقة بالحل؟؟؟ في الواقع لا نرى في المطروح في الورقة النقاشية ما يساعد على الحل أو يؤسس لمستقبل أفضل. بل فيه إصرار على الثبات في الموقف نفسه لطبقة السلطة فهي لاتنوي أن تتغير؛ ما يزيد الفجوة بين الأردن المجتمع والأردن الدولة هكذا نرى الا إذا جاء في الأوراق اللاحقة ما يمكن أن يسد هذه الثغرة .

وحتى لا يقال عدمية ، أو نقد دون اقتراحات الحلول ، كان يمكن للورقة ان تؤدي المأمول منها وأن تكون فعلاً موضوع نقاش جدي، لو تضمنت اجراءات الى جانب الأقوال والنصائح والارشادات ، فالناس بحاجة الى (مبضع الجراح) اكثر من حاجتهم لواعظ أو مرشد وسيما أن هذا المبضع مقبوض عليه بمفهوم الاردنيون بيد رأس الدولة . كان يمكن ان تشتمل الورقة على شيء من الاعتراف بالاشكالية القائمة في الأردن، والاعتراف بمسؤولية طبقة السلطة أيضاً عن وجودها، وذلك تمهيداً لإجراءات يوعد الناس باتخاذها تبدأ بإعادة النظر بالماضي بنظمه الاجتماعية ورجاله لتحديد المسؤولية عما أصاب المجتمع جراء التقصير في أداء الأدوار . وإنه منذ اليوم لا كبير فوق القانون، والكل مسؤول، مع مقترحات لإصلاح الأخطاء ، والتراجع عن كثير من القرارات والاجراءات التي تقف على حافة الفساد أو وقعت فيه، والوعد بالعمل الفوري على انجاز توافق وطني عام عبر مؤسسات لا توجدها طبقة السلطة ولا يشارك أي من رمزها فيها، بل جملة الخبراء والمختصين في سن التقاعد البعيدين عن أية شبهة أو مطمع. والوعد بان يرفع النظام غطاءه عن أي شخصية مهما كانت إذا ما دارت حولها الشبهات والتصدي لها ،وبخاصة أن بعضهم ربما صار يزحف بنهم للامساك بمركز القرار الأول في الدولة باسم الديمقراطية برغم ما يُشاع عن فسادهم وفساد أبنائهم. فينزل الجميع على حكم القانون ويصير الكل تحت القانون دون محاباة أو تمييز طبقي، ومع خلو الورقة من ذلك وغيره من الاجراءات الضرورية لا أرى أن تتجاوز درجة الانتفاع بها بالجملة وكبادرة طيبة درجة انتفاع الحكومات من مضامين كتب التكليف السامي ففيها الكثير مما ورد في الورقة الذي عادة يظل حبراً على ورق.

وختاماً ، رغم ما تضج به الورقة من ثغرات منهجية ونقاط خلاف شديدة ، لكنها تظل نقطة لصالح الملك لأنه كان بذلك أول رئيس لدولة عربية يتواضع ، ويطرح نفسه لمناقشة واقع اشكالي مع مواطنيه . وهذه صفة تعبّرعن ذهنية متقدمة في واقع عربي مأزوم اعتاد فيه رؤساء الدول أن يعتبروا أنفسهم وبسذاجة طفولية آلهة وليسوا بشراً عاديين قد يخطئون وقد يصيبون.

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير