الاردن والتمييز الوظيفي المقنن
إن نهجاً في الحكم والادارة دام أكثر من 60 عاماً يمارس التمييز المقنن بين الاردنيين، غير قادر على ان يكون عادلاً إلا إذا أُجبر على ذلك كما يبدو، والمرجو ان لا يدفع الناس دفعاً الى ذلك. فالعدالة شعار، تماما كالديمقراطية في بلادنا؛ اما منطق العدل وثقافة العدل والمساواة فما زالت غائبة عن الذهن الاردني الرسمي، فغابت عن حياة الاردنيين.
دستورياً؛ المواطنون هم المواطنون ، لافرق بين مواطن وآخر وزير أو غفير بصرف النظر عن نوع أو مسمى الوظيفة التي تسند للمواطن. فوظيفة عامل الوطن مهمة لحياة المجتمع وبقائه كوظيفة الوزير او وظيفة النائب . ووظيفة العسكري او رجل الأمن مهمة تماماً مثل وظيفة العين أو رئيس الوزراء. بل إن وظيفة عامل الوطن او الممرض أو السائق او عامل الكهرباء هي اكثر خطورة من منظور استمرار الحياة او توقفها في البلد من وظيفة وزير او نائب أو عين. فلو توقف كل الوزراء والأعيان على سبيل المثال عن العمل ولو لشهر أو سنة او أكثر لما تعطلت لدقيقة حياة الدولة ... لكن بالمقابل لو توقف عمال الوطن أو الممرضون أو عمال الكهرباء أو رجال الأمن ولو لأسبوع، لانتشرت الأمراض ومات المرضى، وغرقت الدولة في ظلام دامس قد تُرتكب خلاله الاف الجرائم وتُزهق الاف الارواح.
إذن : هي وظائف أخطر واهم من هذا المنظور من وظيفة النائب او وزير أو عين . التي يبدو وكأنها وظائف كمالية زائدة عن الحاجة الضرورية يمكن ان نسميها (مائعة ). هذه حقيقة لا نقاش فيها، واذا احترمنا هذه الحقيقة؛ فلا يعود مقبولاً ان نميز لصالح من تُهدى لهم تلك الوظائف الزائدة عن الحاجة (الملحة ).
إن المنطق التحيزي الرسمي الأردني ما زال يصّر كما يبدو،على ان يتعامل مع هذه الوظائف ، وكأنها وظائف استثنائية لا يشغلها الا عباقرة خارقين للعادة . وهذا غير صحيح ؛ لان الواقع عكس ذلك تماما. إن هذه الوظائف هي التي لا يشترط لاشغالها أي مستوى معرفي او علمي مميز. بمعنى ان شبه الأمي في الاردن هو مؤهل قانونياً لأن يكون وزيرا أو نائباً او عيناً وقد صار ذلك وما زال ، بينما قد لا يستطيع أن يشغل أية وظيفة اخرى من الوظائف العادية الضرورية إلا إذا تميز بمستوى تعليمي معين و خبرة معينة ومعارف فنية في مجالها . إذن لماذا تُطبخ قوانين تمييزية في هذه الأوقات غير المناسبة؟ يعمل طباخوها على ان يخصصوا رواتب تقاعدية لأصحاب هذه الوظائف (المائعة دون شروط) لمجرد ان يخدم من تُهدى اليه هذه الوظيفة او تلك سبع سنوات فقط بينما باقي خلق الله مطلوب منهم ان يخدموا أضعاف هذا العدد ليحصلوا على الراتب التقاعدي .
والسؤال..لماذا هذا؟ نريد منطقا رسميا يقنع الناس بدوافع هذا التحيز المقنن!! لكي يكون هناك عدل بين الاردنيين لا بد من توحيد سنوات الخدمة للجميع دون استثناء حتى يستحقوا التقاعد ، ومن تُهدى له وظيفة وزير ( على ما جرت عليه العادة في بلادنا ) يكفيه هذه الهدية وتصبح (واسعة ) إذا ما خُصص له فوق ذلك أموالا شهرية من بيت المال مدى الحياة دون خدمة مساوية لخدمات غيره . أن خدمة الوطن واجب على الجميع، ليست تضحية من البعض، وامتيازات للبعض. و أي مواطن لا يخدم سنوات الخدمة المطلوية للتقاعد والموحَّدة للجميع فلا تقاعد له، وعلى من يقبلون مثل هذه الوظائف ( المائعة ) دون خبرات وخدمات طويلة لديهم ان يتحملوا نتيجة قرارهم.
إن مصلحة الأردن في الاساس ان لا يصل الى مرتبة وزير او عين او نائب إلا الاشخاص المؤهلين لذلك بالخبرات الطويلة والمستويات التعليمية والفنية المميزة لهم عن غيرهم . اما (تنطيط ) غير المؤهل بالخبرة والمعرفة والعلم من فوق رؤوس الناس وإقطاعه اموالا شهرية من بيت المال مدى الحياة دون ان يخدم مثل غيره ؛ فتلك وصفة مثالية للثورات الشعبية لأنها تدفع الناس دفعاً الى كُره النظام القائم برمته.. وقد يقول قائل أن هذا قد يحرم الدولة من الاستفادة من طاقات شابة قد لا تكون لها خبرة في الدولة و هذا زعم مردود وكلام حق يراد به باطل ، لأن العباقرة من امثال هؤلاء يمكن ان يصبحوا مستشارين إذا كانوا عباقرة فعلاً وبرواتب معقولة . لكننا نعرف ان ليس لدينا في الأردن عباقرة ، لكن لدينا تجارب سابقة. ففي حالات كثيرة تم (تنطيط) أخف الناس وزناً وأقلهم معرفة وخبرة فوق رؤوس الناس ففازوا بامتيازات واستفادوا منها (أبدي) دون ان يفيدوا الاردن بشيء؛ بل أوقفوه على حافة الافلاس والفوضى وأغرقوه بالفساد.
كفى تحيزاً وتمييزاً مقنناً بين الناس بحجج وذرائع فارغة وأكاذيب صارت مكشوفة . وكفى صياغة لقوانين مغرضة لا هدف لها سوى خدمة الذات والاصحاب والمعارف والخلان. إن ذلك ليس ظلماً إذا استمر أغرى بالثورة فحسب ؛ بل هو أيضاً فساد مقنن.