اعتراف بجريمة نكراء
د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :
أعترف بارتكابي جريمة عظيمة قد يكون لها تبعات اجتماعية واقتصادية وبيئية عظيمة. فالجريمة تُعرّف من الناحية الاجتماعية بمخالفتها العادة والعرف الاجتماعي السائد، أي لأن مضمونها مُخالفٌ لما يقبله قطاع غير قليل من المجتمع ... وليس كل المجتمع ...
ابتداءً أضع بين يدي الأصدقاء والقرّاء قول الله تعالى :
" بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره "
أقول ذلك من أجل أن أدرء وأجُبَ الغيبة عن نفسي ... لأن هناك من سيتطهر ويتقول ويُنكر عليّ جريمتي ... ويقول عني بأنني أدعي الشجاعة بالاعتراف بجريمتي ... فأقول لمثل هؤلاء بأنني لم أرتكب هذه الجريمة إلا ابتغاء لوجه الله الجميل !!!
كيف تُرتكبُ جريمة ابتغاءً لوجه الله الجميل ؟؟؟ ... فهاكم ما عندي :
دأبت منذ مدة على المشي الصباحي في الحارة التي أسكن فيها، وأقطع مسافة لا تقل عن ألفي متر، في الشوارع الفرعية. وخلال المسير ألاحظ الكارثة البيئية التي نعيش فيها من غير وعي الناس لتبعاتها الاقتصادية والصحية.
قررت منذ أربعة أيام أن أحمل معي كيساً بلاستيكياً كي أضع فيه كل ما يصادفني من قوارير بلاستيكية ملقاة هنا وهناك، وأغطية القوارير وعلب السجائر (الفارغة) وقُمَع السجائر وأكياس البلاستيك المتطايرة، وأكياس البلاستيك المليئة بفوط الأطفال المليئة بالبول وبراز الأطفال، وعلب المشروبات الغازية، والورق، والصحف، والمنشورات الورقية.
على طول المسافة المقطوعة أجمع كمية اضطر إلى تفريغها أربع مرات، في حاويات القمامة الموجودة على زوايا الشوارع التي أسير عليها. وأقدر وزن ما أجمعه بما لا يقل عن عشرين كغم من النفايات الصلبة.
لاحظ وجودي عامل التنظيفات من أمانة عمان، الذي لا يستطيع وحده أن يقوم بمهمة التنظيف في المساحة الواسعة نسبياً، فظن في اليوم الأول بأنني من الفقراء الذين يجمعون بعض النفايات، مثل علب الألمنيوم والبلاستيك، كي يبيعها، لكنه في اليوم التالي رصدني أمام شقتي وأنا البس بدلة وربطة العنق. فكان رقيقاً بكلامه وسألني "لماذا تقوم بجمع القمامة ؟ ... ظننتك في بداية الأمر أنك تجمعها من أجل بيعها، لكني رأيتك صباح هذا اليوم وأنت تلقي بها في الحاوية !"
فقلت له : أتدري يا ولدي كيف ضاعت الأوطان ؟
ضاعت لأننا نشتم اليهود ونردد الحديث الذي يقول " نظفوا أفنية بيوتكم ... ولا تشبهوا باليهود ..." لكن المدن التي أحتلها هؤلاء القوم أنظف من مدننا !!! ... فرأيت الدمع يتساقط من عينيه !!!
تابعت قولي له بأنه لو قام كل مواطنٍ قادر بتنظيف بيته والحارة التي يسكن بها لغدت مدننا وأريافنا وبوادينا نظيفة إلى حد الترف ... وانخفضت مع كل هذه النظافة كلفة التنظيف وكلفة التلوث البيئي وكلفة الرعاية الصحية، واتسعت دائرة حب الجار لجاره ... ولأصبحنا ملائكة مقربين من الله من غير أن نتعبد أو ندعي التقوى والإيمان الفارغ من مضمون التطهر ...
أخذ عامل التنظيفات يبكي كالأطفال ... فقلت له هوّن عليك يا ولدي ... فمددت يدي إلى جيبي كي أعطيه صدقة ... فرفض أن يأخذها ... وعندما استحلفته بالله قال لي بأنه خريج جامعة ويحمل شهادة علمية ... لكنه لم يعثر على وظيفة ... فاضطرته ظروفه الصعبة بأن يتقدم إلى أمانة عمان كي يشتغل فيها عامل تنظيفات ... واستحلفني بالله أن أبقي الأمر في قلبي ... فسألني عن عملي ... فقلت له بأني رئيس لجامعة .... " الويل لي وأنا أدرس مساق عنوانه اقتصاديات الموارد والبيئة " وقد ألفت كتاباً في هذا المجال ( 2014)... فكيف أكون متسقاً ومتصالحاً مع نفسي وأنا أرى القمامة منتشرة في شوارعنا وألعنها وأشتمها ليل نهار ولا أبادر بشرف محاولة مساعدتك في القيام بواجبك ...
وكيف يكون المواطن متصالحاً ومتسقاً مع ذاته وهو يطالب بمحاربة الفساد ... لكنه في الوقت ذاته يمارس أبشع أنواع الفساد المتمثل برمي قمامته على الآخرين ...
تابعت كلامي له ... فقلت تباً لبعض مسؤولينا وسحقاً لهم ... فهم مستغرقون بملىء جيوبهم ويتشدقون بالنزاهة والأمانة لكن الله فاضح سرائرهم ... إذ لو كانوا أطهاراً لما وصلنا إلى هذه الحالة المتردية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وبيئياً .... أين أساتذة المدارس والجامعات ... أين الذين وضعوا المناهج التربوية ... أين الأوراق النقاشية ... أين رئيس الوزراء ووزير الصحة ووزير البيئة ووزير البلديات ... أين من يهدد الناس بمحاكمتهم تحت حجة اغتيال شخصيات الآخرين ... فمن لم يعجبه قولي فليأتي ويحاكمني بتهمة اغتيال المجتمع كله ... فلقد سئمت من قرفقكم وكذبكم وخداعكم .... لا نريد أوسمتكم ... ولا نريد مديحكم ...فسخطكم علينا هو الشرف بذاته ...
وأخيراً أقول بأن النظافة قرار شخصي ليس له علاقة بالمال والسياسة واغتيال الشخصيات أيها المقرفون ...
جريمتي ستغضب صهاينة الداخل والخارج ... وسيقولوا مجنون ... وردي على ذلك أقول بأن جنوني أشرف عند الله من عقلانيتكم التافهة !!!