الشبح الذي حل اللغز "الزيارة الثانية"
قلقت ذات ليلة ؛ عادتي بين الفينة والأخرى . فنهضت من نومي واسندت ظهري إلى مخدة ، فصرت ممدوداً بزاوية منفرجة ، لا أنا بالنائم ولا بالقاعد . جالت برأسي الأفكار فسرحت معها بعمق .
وبينما أنا على هذه الحال ، وإذا بصديقي "الشبح" قد طل من بعيد ، بعد غياب طويل منذ زيارته الأخيرة التي حل لي فيها اللغز المتعلق "بأسباب غرام طبقة السلطة الأردنية وهيامها بالبحر الميت الذي مات منذ قرون ولم تشيّع جنازته بعد" ، وقال حينها أن الأمر مقصود كسبب يجيز لنا حالة التجمع باستمرار دون تصريح لحضور الجنازة ما دام الميت غير مدفون . وبالمناسبة فنحن الأردنيون قوم مولعون بالجنائز . بل لا نخبر بعضنا البعض بالخلويات إلا عن وفاة ، كي لا تفوتنا الجنازة، فهي مناسبتنا الشعبية فقط , واداتنا الوحيدة لتنمية الاعتزاز الوطني لدينا ، بعد أن جف. وفيها يجد عشاق الخطابة من يخطبون عليهم ، وفي صواوين المآتم فقط يجوز لمحترفي المواعظ أن يقتحموا صمت الناس ، فينهالون عليهم بالمواعظ دون استئذان أو طلب من أحد لعلمهم بأنه لن يجرؤ أحد على مقاطعتهم مراعاة لمشاعر أهل الميت ، حكاية تختلط بالاستغلال والابتزاز ، والناس يتجرعونها على مضض ، يجد عشاق الانتخابات من يدعونهم الى انتخابهم مع أن المرشح فيهم قد لا يعرف ماذا يريد من هذه اللعبة ، وربما لا يعرف كيف يعرف ما يريد منها .
مع ذلك يتنطع ويستعرض ويوحي للناس أو يطلب علناً أن ينتخبوه !!! غالباً بالمخاجلة، يفعل ذلك وهو في مأمن من أن يسأله أحد : لماذا ننتخبك ؟ وماذا بامكانك أن تعمل؟
المهم ... أقبل الشبح ولا أخفي عليكم بأنني شعرت براحة لزيارته فلديه قدرة ورغبة على حل المشاكل لكنها راحة خالطها شيء من الخوف ... فالقادم شبح .. وليس بشرا مثلنا ، وكما ينفع قد يضر، لكنني تجلدت تصنعاً ورحبت به وقلت ها : يا أبو الأشباح ؟ أين غبت هذه الغيبة ؟ ظل واجماً فتشجعت وسألت : أراك لا ترد ؟ هل انت محبط ؟ فما أعرفه أنكم معشر الأشباح لا يحبطكم شيء ، مقارنة بنا نحن البشر ، نحن (الغلابى) والكسالى ، لا نمشي إلا إذا حملتنا الدواب ، أو الحديد ! ولا نضحك إلا إذا قيّض الله للواحد منا سبابتين (مثنى سبابة وهو الاصبع الثاني باليد من جهة الإبهام) ، يشد أحدهما زاوية الفم شمالاً والآخر يشد بالأخرى يميناً ، بتزامن ودقة لكن بشدة ، فينمط الفم فنضحك قسرياً وكأننا نبكي،سمع الشبح ما قلته وضحك، فتشجعت وسألته هات ما عندك من حلول ... سألني حلول ماذا ؟ أجبت : لما نحن فيه !هل يعجبك ما نحن فيه ؟ وكيف نصنع دولة يحب فيها الناس بعضهم بعضاً ... وحتى يا أخي يقدروا يعيشوا بسبات ونبات ويخلفوا صبيان وبنات؛ ضحك الشبح حتى كاد أن يسقط على ظهره في الهواء وقال : أما (خِلْفة) الأولاد والبنات فهذه أنتم فيها خبراء واساتذة ولا تحتاجون لمساعدة لا أشباح ولا عفاريت ، وعددكم أكبر من طاقتكم ، وادعوا الله أن يحميكم من التسوّل عما قريب !!! قلت (هذه) فهمناها ، وامسك الخشب صيانة لفحولتنا من صيبة العين .. فشد الشبح على عصا خشبية كانت بيده تصله بالأرض كي لا يطير ،وكي لا يصيبنا بالعين ... قلت : هكذا أحسن... وسألته ما الحل للمأزق بين الحكومة والشعب فالحكومة تصر على أنها هي الشعب ولا شعب غيرها ، والشعب يصر على أنه هو الحكومة ولا حكومة غيره ... والمسألة صارت معضلة لا حل لها !!! الحكومة تتصرف وكأنها تقول للشعب : لا اعترف بكم إلا إذا (صُرتم) من الحكومة .. والشعب يقول للحكومة لا نعترف بك إلا إذا (صُرت) من الشعب ! فأين يمكن أن يلتقيا إذن ؟
نظر إلي الشبح بحدة وخفّض من صوته وسأل : طيب شو موقف الملك ؟؟ صححت له بسرعة ، قل جلالة الملك أرجوك ؟ سألني لماذا ؟ أجبت كي لا تُظن بك الظنون . قال لكن قوانينكم لا تلزم بهذه الشكليات !!
علقت وقلت : ولا الملك نفسه يلزم بذلك لكننا لا نتعامل مع بعضنا بالقوانين كما تعرف، ففتح ذلك مجالا لانصاف المثقفين الاردنيين من طبقة السلطة كي يلزموا الناس بكثير من الاشياء من وراء الملك والقوانين حتى يُكرّهوا الناس بالملك، كما صرنا نعتقد. علق الشبح على ذلك بقوله : هؤلاء هم المشكلة وأصل الداء . ثم صمت وتنهّد بعمق وسرح بالخيال ... تساءلت مستغرباً ، هل الأشباح مثلنا تسرح كما أرى ؟! أجاب لا ، إلا في الحالات النادرة ، وحالتكم كما أرى نادرة ... ثم أردف : اسمع يـ سيدي! انتفضت وكأن بي لسعة نحلة ، وقلت أنا (لست) سيد أحد ولا تُردد هذه الكلمة على مسامعي ؟ سأل الشبح مستغرباً لماذا ؟!! الكبير والصغير عندكم يقولها ؟! قلت وهذا أصل الداء .. واصل دمار البلد !! كلمة سيدي (بكسر السين وتسكين الياء) هذه دمرت الأردن .. وهي كلمة سوّقتها طبقة السلطة اياها عبر الأجيال في الأردن ، لتصل بالناس الى نتيجة أن لا سيد في البلد إلا واحد .. و طالما للبلد سيد واحد ، فهو المسؤول إذن عن كل ما يجري فيه وما يحدث له ... وهم براء من كل ذلك .. لقد (حبكو) (الحبكة) وشرب الناس الطعم . فتجرأوا على الفساد كخدم لسيد مطاع واحد ، وعاثوا بالبلد فسادا ما بعده فساد، لأنهم بحماية وتحت أوامر السيد الواحد كما أشاعوا بين الناس ....
تساءت : هل يعجبك هذه يا أبو الاشباح ؟؟
أجاب : لا ...لايعجبني ذلك .. ولن أكررها .. واسمع يا بني آدم؛
إن حل مشكلتكم بيد شخصية أردنية واحدة ما فيش غيرها الآن هي : الملك : فهو المؤهل للحل إذا استطاع ! تساءلت وهل قد لا يستطيع ؟ أجاب نعم ! ذلك ليس سهلاً لأن المطلوب أن يبدأ من الصفر، وكأن ليس هناك دولة ولا مؤسسات،فيقوم بدعوة شخصيات أردنية يَعرفُ هو قبل غيره، أنهم فوق الشبهة نسبياً بنظر الأردنيين ولو كانوا معارضين . يستدعيهم الى ديوانه ويبادرهم بالهجوم ليأخذ عليهم عدم تعاونهم في العمل من أجل اخراج البلد من الأزمة . ويتهمهم بأنهم فقط محترفوا شعارات وكلام وتحريض للناس ، لكنهم عند العمل الجاد يتحولون إلى أنانيين وليس لديهم استعداد للتضحية والعمل والتعب. فإذا ما أبدوا رغبة في العمل والتعاون ليردوا الاتهام عن أنفسهم؛ يكلفهم فوراً بعمل خطة عمل سريعة ولكن دقيقة ومحددة ، تؤسس لعمل دستور جديد يكونوا هم ضمن الهيئة المؤسسة له ونواتها الصلبة . ويمهلهم لإنجاز ذلك ثلاثة شهور ، ويعلمهم أن ما قد يصلون إليه سوف يعرض على الشعب للاستفتاء عليه ، فإذا فاز بثقة الشعب صار دستوراً جديداً ، و على أساسه تفصّل قوانين الدولة أو يُعدل الموجود منها بحيث لا يتعارض مع الدستور الجديد ، لا بالنص ولا بالروح ، كما هي حال القوانين السارية اليوم التي يتعارض الكثير منها مع الدستور بل وتفرغه من مضمونه أحياناً.
وأضاف : ثق تماماً أن 90% من الأزمة سوف يحل بمجرد توجيه الدعوة لهذه الشخصيات سواء تجاوبوا أم لا .. وبعدها تقود الخطوة المنجزة إلى أخرى غيرها ، إلى أن تتم عملية المَأسسة الكاملة للأردن الجديد . وهنا قاطعته قبل أن يكمل وقلت : أراك يا أبو الاشباح تتحدث وكأن عملية اختيار الشخصيات مسألة سهلة ؟! فنحن الأردنيون لا يرضى الواحد منا بالعجب ولا الصيام برجب ؛ فكيف سيقبل الواحد منا أن يُدعى غيره وليس هو؟ هذه عقدة أردنية!!!!
رد بسرعة وقال : أدري : لكن هناك شخصيات إذا انتدبها الملك وأمرها بالعمل لصالح الأردن مع أنها معارضة (حسب تصنيف الأجهزة الأمنية التي صارت معاييرها عتيقة) ؛ فسوف تخرج بصيغة مريحة حتى للملك نفسه الذي ربما قد يتحسب من توجهات البعض ممن اعتادت الاجهزة الأمنية أن تشككه فيهم ... وأردف يا بني آدم جربوا هذه الوصفة .. فالناس في بلادكم يعرفون بعضهم البعض ويعرفون إلى أي حد يمكن أن تعطى الحرية للناس ، وإلى أي حد لابد من تقييدها ... ويعرفون الحساسية الداخلية بين بعضهم البعض والشكوك وضعف الثقة ... وهذا كله سيكون له أثر ايجابي على مجريات عمل هذه الشخصيات عندما يجدون أنفسهم في موقف يؤسسون فيه لدولة تزول منها مقومات الاستغلال والفساد والاستبعاد والاستقواء على بعضهم البعض . انتم أيها الأردنيون عندما تكونون خارج نطاق المسؤولية العامة تتحدثون بطريقة معينة مع الشعب وعندما تصبحون أمام المسؤولية تتحدثون بطريقة أخرى مختلفة ولو مناقضة لها تماماً ولا ترون في ذلك عيباً مع انه عيب كبير . وعندك أقرب مثال دولة الدكتور عبد الله النسور: شوف وقارن بين ما كان يقوله وهو خارج المسؤولية، وما يقوله اليوم بعد أن صار مسؤولاً ؟!! كلكم هكذا !
وهنا أعدت عليه السؤال : هل تقصد أنه من الأفضل أن تكون غالبية المدعوين من المعارضة ؟؟ أجاب ولما لا ؟ فهم أردنيون ، يخافون من تحمل مثل هذه المسؤولية الضخمة ، ولا مناص إلا أن ينحازوا للمصلحة العامة ؛ مصلحة الوطن . وأهمهم المعارضون المستقلون ، والمعارضون الاسلاميون . ولا بأس أن يكون من بينهم موالين ... فمنهم الكثير اشراف خدموا الوطن ولم يمسسهم سوء ، ولم يخرجوا من الخدمة اثرياء.
وبعد أن انهي كلامه ، سألته هل عندك وصفة غير هذه الوصفة ؟ فالملك سيجد من حوله من يقول له اذا سمحت بذلك يا سيدي الناس سيتطاولون اكثر ..... وغير ذلك من هذا الكلام الفارغ. وبعدها (هات) حلها مع المنافقين حوله .!! قال لا : جربو هذه الوصفة ؛ إذا نجحت فخير وبركة ، و اذا فشلت ؛ (ماتزعلوش) لأنكم كنتم مضطرين اليها ، لأني لا أرى بكل طاقاتي الشبحية أية وصفة أخرى غيرها تناسبكم ، لا في الأرض ولا في السماء . قال ذلك واختفى...
أما أنا فقد احترت في أمري ، كيف ولمن أوصل هذه الوصفة . فالمطلوب أن تصل الى الملك ، وأنا مجرد مواطن أردني عادي ، وطريق المواطن العادي الى أي ملك مسدود . هززت رأسي وتمتمت قائلاً : قال ( بده أشوف الملك )!!! أي ( هو أنا بقدر أشوف الملك )؛ ( ليش هو أخوي ولا ابن عمي)؟!! (احنا) في الأردن حتى المسؤول من درجة (طُشِيّة) لا تستطيع أن تراه بسهولة إلا إذا كان أخوك أو ابن عمك . حتى الأصدقاء إذا ما صاروا مسؤولين يُعادون أول ما يعادون أصدقاءهم، حتى ربما من كنت رئيسه في عمل عام ،عندما تترك الخدمة يعاديك!!!! اذا الناس (الكحيانين مثلنا) بتصرفوا هيك ؟!! فكيف ( بده اياني ) أشوف ملك ؟!!
أخيراً قررت : لا لا هذه المرة الأشباح أخطأت ... مش رايح أشوف حدا ، واللي (بقع) من السماء تتلقاه الأرض .
وغرشت . وبس... وهذاك يوم وهذا يوم (ماجبت) سيرة لحدا .
تنفيذاً لنصيحة الفنان الأردني موسى حجازين(سمعة)
وقبل أن أخرج من الموقف : طل الشبح علي فجأة وقال : أين القصيد يا أبو القصيد ولا هذه المرة حاف ؟ ! وبسرعة مع قليل من الخجل رديت إبشر ... فأغمضت عيني وانطلق لساني قائلاً:
يا طالْ من فوقْ سبعهْ ، على الناس ، بَرْجاكْ
تنقذ إبلادنا مِن دياجير ظَلْمَهْ
أَشوفْها مِقْبلةْ ترى الناسْ بِحْماكْ
مالها نصيرْ يا رحيمْ غيركْ ولا لَمَّهْ
باعوا الأرِضْ والعِرْض , وعِنْد (العَرِطْ) نُسّاكْ
والفاهِمْ لو حتى سألْ , الرّدْ :ولا كِلْمَهْ
نَهبوا الموارِدْ والبشرْ , وما ظل شي يِلْتاكْ
حتى العدوْ مِنْ فَرْحِتُهْ ضِحِكْ علينا بكُمَّهْ
الوطن حِمْلٌهْ ثِقِلْ ، والسنَدْ بَسْ يُمناكْ
بِجاهْ المسيحْ والنبي ، ما تكون غير غُمّهْ