اقتصاديات الإحباط والموت
د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :
دأبت منذ مدة على كتابة سلسلة من المقالات المتعلقة بالأوضاع المحلية، وبخاصةٍ في المجالين الاقتصادي والاجتماعي ... وهذا المقال بالذات له خصوصية عالية ... فهو موجه إلى الملك مباشرة من غير المرور في حجاب ديوانه ... ثم إلى عمر الرزاز رئيس الورزاء ... وإلى من يُحِب التأمل بعمق ٍ في خضم ِ أحوالنا ... ومن يعنيهم الأمر مباشرة ... لعل ضميراً حياً يستيقظ ويفعل ما يجب فعله ...
كي أسهّل مهمتي أرجو أن أضع بين يدي القارىء بعض المبادىء الهامة التي استند إليها في رأيي:
النبوة والنبؤة في اللغة العربية سيان ... أي أن الكلمتين تحملان المعنى نفسه ... وكلُ رسول ٍ لابد أن يكون نبي (أو نبيء) ... لكن ليس كل نبي (أو نبيء) رسول ... فالرسالة سماوية ولابد أن يكون حاملها رسول نبيء ... أما النبوة أو النبؤة فهي دنيوية بالضرورة ... ومن خلال قراءتي في تاريخ الأمم وجدت بأن كافة الفلاسفة والعلماء كانوا نبيين (نبيئين) لكنهم لم يكونوا رسلاً (أي أنهم لم يكونوا مرسلين من الخالق) ...
تأتي النبؤة على مستويات ٍ متعددة: بسيطة جداً، وبسيطة، ومتوسطة المستوى، ومعقدة، ومطلقة.
تتوافر النبؤة البسيطة جداً عند كافة المخلوقات مهما كانت ... ومثال على النبؤة البسيطة عند أي مخلوق خوفه من النار لأنها تحرق ... ما يعني بأن المخلوق يخاف من النار لأنها تحرق من غير أن يمر المخلوق نفسه بتجربة الحريق ... وهذه النبؤة مبنية في ذات المخلوق من الخالق ...
هناك نبؤة بسيطة، تقع في مستوى أعلى، ومثال عليها إذا قلنا لطفل في الصف الثاني ابتدائي بأن:
X + Y = 10
فإنه يستطيع التنبؤ، بشكل يقيني، بقيمة أي من (X ) أو (Y ) إذا علم قيمة أحدهما ... إذ لا يحتاج الطفل إلا التعويض بقيمة المتغير المعروف كي يحدد قيمة المتغير المجهول ...
أما النبؤة المتوسطة والمعقدة فهي من شأن الباحثين والعلماء في شتى العلوم. وعلى سبيل المثال استطاع علماء الفلك معرفة تداخل أفلاك الكواكب السيارة واحتمال تصادم النجوم والنيازك ... واستطاع علوم الفضاء تحديد بُعد القمر عن الأرض ورسموا مساراً لرحلة البشر إلى القمر وحددوا البقعة التي سيهبط عليها على سطحه بهامش خطأ كان مقداره أقل من واحد بالعشرة آلاف ... ويستطيع قائد الطائرة أن يقلع بطائرته ويسير في طرق ومسارات ٍ جوية ٍ معقدة ويصل إلى المطار الذي يريد بوقت محدد ... أما في العلوم الاجتماعية والاقتصادية فإن أسس عملها والتنبؤ بأحوالها يختلف بعض الشيء عن العلوم البحتة ... لكن على الرغم من ذلك فقد سلّح الله العليم علماء الاقتصاد والاجتماع بالعقل والإرادة والمنطق، والمقدرة على توظيف المعلومة الصادقة ومكّنهم من القدرة على التنبؤ بأحوال اقتصادية واجتماعية معقدة ... يكون فيها هامش الخطأ في نبؤة عالم الاقتصاد أقل كثيراً من هامش الخطأ الذي يقع فيه عالم الفيزياء في علمه ....
لا يضيرني ولا يعيبني القول بأنني وغيري من المُختصين في علوم الاجتماع والاقتصاد والرياضيات نستطيع أن نتنبأ بمآل المجتمع بناءً على معطيات الماضي والحاضر ... فأحوال المجتمع الراهنة والماضية هي متغيرات وبيانات ... أي أنها معلومات أولية يستطيع عالم الاقتصاد وعالم الاجتماع أن يوظفها كي يصل إلى معرفة شبه يقينية حول ماهية المجتمع وأحواله والمسار الذي يمشي عليه ... ويستطيع أن يتنبأ بمستقبله؛ مزدهراً كان أو منحسراً !!! ... فقد وصلت النظرية الاقتصادية إلى درجة عالية من التعقيد والقدرة على التنبؤ بدرجة عالية من الدقة ...
تحضرني آية عظيمة من آيات القرآن الكريم لم تستدع انتباهي مثلما استدعت انتباه عالم الاقتصاد الأمريكي توماس كولي Thomas Cooley ... الذي تشرفت بالتتلمذ على يديه خلال السنوات 1981 - 1985 ... في جامعة كاليفورنيا - سانتا باربارا ... فقد عملت معه مساعداً للبحث والتدريس ...
تفاجأت به ذات صباح في ممرات كلية الاقتصاد ... وهو يدعوني إلى احتساء القهوة معه ليسألني عن معنى القتل باللغة العربية ... فقلت له القتل في العربية لغة واصطلاحاً هو اسم فعل ومعناه أن تنهي الوجود المادي للمقتول ... سواء كان بشراً أو أي مخلوق آخر ... فقال يبدو لي بأنك متمسك بالمعنى التقليدي والحرفي الذي دأب على تبنيه مفسرو وعلماء اللغة ... لكن من معرفتي باللغة شيئاً ما مع الإنجيل المقدس واللغة الآرامية التي كُتب فيها الإنجيل والسياقات التاريخية أقول لك بأن للقتل عدة معان ٍ ... منها أن تهمل الإنسان أو تهجره قسراً ... فكأنما قتلته ...
ثم أردف قائلاً ... عندما لا تسمع لرأي عالم أو تجبره على الرحيل تحت وطأة الحاجة المادية فكأنما قتلته ... وأخذ يقرأ من سورة آل عمران ويفسرها كما فهمها ... لكن فهمه ألجمتي وألقى في نفسي وعقلي الرعب ... فقال :
إن الذين يكفرون بآيات الله ... ويقتلون النبيئين بغير حق ... ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ... فبشرهم بعذاب أليم ... أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ... وما لهم من ناصرين ...
أضاف قالاً: يكفرون فعل مضارع يعني استمرار الكفر بآيات الله ... وآيات الله تشمل ظواهر مثل الفقر والبطالة والفساد والنهب وسفك الدماء البريئة من أجل السلطة والجاه ... والقتل هنا ليس فقط إنهاء حياة البشر بل يشمل إهمالهم وإهمال عقولهم وتهجيرهم ... فلا غرابة أن نجد آلاف العلماء من العرب والمسلمين مهجرين طواعية أو قسراً بسبب السلطان الجائر الذي تحدث عنه نبيكم الكريم ...
أما النبيئين (بالهمزة) فهم العلماء والباحثين الذين حباهم الله بالمقدرة على تتبع مآلات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في محيطهم ... وقتلهم هنا يعني تهجيرهم أو إهمالهم ... والذين يأمرون بالقسط من الناس هم المصلحون الذين يطالبون بالعدل والمساواة ... فإما أن يُقتلوا أو يهجروا أو يُهملوا ...
كانت الصرعات الدموية خلال السنوات 1981 - 1985 تجري في منطقتنا على قدم وساق ... سفك الدماء في سوريا ولبنان وفلسطين تحديداً ... وقد عمم استاذي توماس كولي تفسير الآية من آل عمران وأنها تنطبق على ما يجري في أمة العرب ... فقال أنظر كيف يرعى الهنود علماءهم وكيف يرعي الصينيون علماءهم وكذلك اليابانيون ... وبقية الأمم ... أما أنتم العرب فإنكم تقتلون العلماء بالإهمال أو التهجير ... وتثقون برأي الأجنبي أكثر من علماء بلادكم ...
بعد مرور ما يزيد على ثلاثين عاماً على تلك الجلسة مع البروفيسور كولي وتفسيره الذي أرعبني تذكرت ما يقوم به أصحاب السلطة والقوة التفاوضية في بلدنا : يكفرون بآيات الله في مجالات الفقر والبطالة والبؤس والجوع والحرمان ... ويقتلون النبيئين بغير حق ... ويثقون بالبنك والصندوق الدوليين وعملاء هاتين المؤسستين المُخربتين أكثر مما يثقون بعلماء الأمة ... ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ... فلا عجب أن يحبط الله أعمالهم في الدنيا والآخرة ... فكلما خرجوا من كارثة دخلوا في أخرى ... وما لهم من ناصرين ... وأقول لكم انطلاقاً من فهمي البسيط لمبادىء علم الاقتصاد والاجتماع بأنكم تخربون الاقتصاد وتدمرون العباد وتسيدون الأوغاد ... وقد آن الأوان أن تخجلوا من توماس كولي وفهمه لدينكم ...
رحمك الله تعالى استاذي توماس كولي الذي علمني بعض دروس القرآن الكريم ....