الناس وصلاحيات الملك
ا.د. إدريس عزام
جو 24 :
ينقسم الأردنيون أزاء هذا الموضوع . إلى ثلاث فئات , الفئة الأولى : وتقول بضرورة أن يملك الملك ولا يحكم , فيكون رمزاً للدولة ورمز وحدتها , وفوق الجميع , وفوق كل الشبهات التي تنشأ عن ممارسة سلطات , مهما كان نوعها . فمن يعمل يخطئ, والذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل أبداً ... و طالما أن العمل مقرون باحتمال الخطأ وهذا يستوجب المساءلة , فلا يستوي عقلاً أن يكون رأس الدولة موضع مساءلة (وبخاصة أن هذه مسالة لا وجود لها في الموروث السياسي العربي والإسلامي منذ عهد عمر) , وإذا ما أعفي من المسؤولية القانونية , كما هو جاري حالياً , صار هناك لطبقة السلطة أية سلطة مجال لأن تعيث فساداً في البلاد , وتدعي أنها تتصرف بأوامر (من فوق) طبعاً يقصدون الملك .. فلا يجرؤ أحد على مساءلتهم لعدم إمكانية مساءلة (اللي فوق كما زعموا) , فالجميع يسكتون والصدور تتعبأ بالغيظ والحقد.
و تتساءل هذه الفئة , ماذا يضير جلالة الملك لو نأى بنفسه عن أية سلطة , واحتفظ بكل جلال الملك ومهابته , وبكل الامتيازات المادية والمعنوية اللازمة لذلك , وكما يحددها ويقدرها بنفسه ؟؟ !
ويذكرون لغايات المقارنة والاقتداء ملوك العالم ممن يملكون ولا يحكمون في اسبانيا و بريطانيا , وهولندا -الخ ويرون إن انفراد جلالة الملك بتعيين رئيس الوزراء يلقي عليه مسؤولية فشل الحكومة وطاقمها, والملك في غنى عن كل ذلك ... و تبرر هذه الفئة ما تطرحه بالقول : إن جلالة الملك هو بشر في الأول والأخير, نشأ بأسرة ملكية , وتلقي تربية ملكية كأمير , وظروف مثل هذه التربية خاصة جداً . وتحول بالضرورة بينه وبين الإحاطة بكثير من أمور الناس كمزارعين وعمال وفلاحين وتجار و موظفين ورجال ونساء وشباب , كما تحول بينه وبين الاختلاط مع نوعيات البشر المختلفة من نصّابين وانتهازيين و مستقيمين ومنحرفين ولصوص ومدعين , ودجالين ومنافقين وحرامية , وهي صفات لا يحيط بها ولا يتسنى اتقاء شرها, إلا من اعتاد أن يجالس الناس يومياً في المضافات والدواوين والشوارع والأزقة والدكاكين والحارات والمولات والمقاهي الشعبية , وشاهد أو شارك باشكالات و طوش ومؤثرات وتكذيب , وتصديق الناس لبعضهم البعض وتعرض الكثير من المواقف مع الكثيرين من الناس .
كما تحول نشأة الأمير بينه وبين أن يلم ولو قليلاً بالطبيعة الفنية لعمل الوزارات والمؤسسات والجمعيات والأندية الليلية والنهارية ---الخ , هذه القائمة التي تمتد لتشمل معظم مفاصل حياة المجتمع .
ثم أن التربية الملكية ليست فقط هي الحاجبة عنه مشكلات الحياة هذه وهمومها وخصائصها واحتياجاتها , بل تتعاون معها عليه في ذلك مؤسسات الدولة . فلا مكان يمكن أن يزوره إلا و يقوم القائمون عليه (بتزييفه) ..
نعم يزيفونه , بإخفاء حقيقته عن عين الأمير أو الملك (الضيف بنظرهم) فلا يطلع إلا على واقع مزيف , وعندما يغادر يجلس القائمون هؤلاء ويتنفسون الصعداء قائلين (هييه الحمد لله عدَت على خير , ونجحنا أننا طلعناه مبسوط) (بمعنى أنهم قاموا بتضليله) (عادة عربية صارت راسخة والعياذ بالله) .
لكن هذا الأمير عندما يصبح ملكاً بصلاحيات كاملة , يصبح لزاماً عليه أن يأخذ قرارات قد تكون حاسمة .. وبمفاصل حيوية من حياة الدولة قد تكون غائبة عن معارفه الشخصية , فيضطر إلى الإعتماد على الآخرين من حوله..
ولا آخرين حول أي ملك أو رئيس يمكن إفتراض ولائهم المطلق له , هذا إذا سلم من كرههم . فالاحتكاك اليومي يولد ألفة وهذه تقلل من الكلفة فتستيقظ في النفوس دوافع الاستغلال والمصلحة فيعملون بإسلوب يزيد من اعتمادية الملك عليهم , فإذا ما شعروا بذلك – تفرعنوا وربما صاروا يتماهون مع الملك لكن بجرأة أكبر .
فالملك قد يحسب للخطأ ألف حساب ولو من باب المسؤولية الإخلاقية عنه , أما هم فلا يحسبون لذلك أي حساب لأنه لا مسؤولية إخلاقية ولا قانونية قد تلحق بهم ... فنصيبهم من أية عملية المغانم فقط , أما المغارم فعلى الملك , الذي لايجرؤ أحد على مراجعته أو مؤاخذته .. إذن فالغطاء لهم متوفر تماماً , فلماذا لا يكونوا أجرأ على الخطأ أو التوصية به أو الإغراء به , وبخاصة إذا كانت لهم مصلحة , فالمصالح الشخصية تتحقق , والمسؤولية على الملك , أما الشعب فأمامه البحر فليشرب منه حتى (يطق) .
ولاتختلف النتائج من حيث إمكانية الإشارة بالخطأ أو الإغراء به من قبل السلطة , إذا كانت علاقتها بالملك رسمية جداً , فمثل هذه العلاقة عادة تفرض على المحيطين بالملك أوالرئيس أو أي مسؤول , وجوب التذلل , أو المبالغة في احترامه مجبرين لاستحقاقات بروتوكولية , ولا خيار لهم إلا طاعته , وهذا من شأنه أن يزرع الكره في نفوس هؤلاء المحيطين , رغماً عنهم – إذ يستحيل من الناحية السيكولوجية كما يقول علماء النفس , أن يحب إنسان ما إنسان آخر يضطر لأي سبب أن يكون أمامه بهيئة أو أن يتصرف بطريقة يعرف أنها أقل مما يستحق , فيكره نفسه أولاً ثم يحيل هذا الكره بالضرورة نحو ذاك الآخر . فإذا ما سادت هذه المشاعر بين المحيطين بالملك, فقد لا يتمنون دائماً نجاحه في سريرتهم , رغم إستعدادهم لكبت هذه المشاعر والتعايش مع هذا الواقع لخدمة مصالحهم ولو على حساب شعورهم باحترام الذات .
ولعل هذا أحد الأسباب التي تقف وراء بعض القرارات التي اتخذها الملك بتنسيب من بعض هؤلاء وإغراءاتهم التبريرية , وعندما صدف أن اطلع الملك على الحقيقة عاد عنها مثل مسألة (الأراضي) المعروفة , وليت الآخرون بمثل هذا الفعل والفضيلة يقتدون .
ويخلص هؤلاء إلى القول بايجاز : أن التربية الملكية الخاصة , وجهود كافة مؤسسات الدولة في مجال تزوير الحقائق وتزييفها أمام الأمير أو الملك أو الرئيس, تفرض عليه ضرورة الإعتماد على آراء وتنسيبات الآخرين ليأخذ على أساسها قراراته ويمارس صلاحياته . وطالما أن الآخرين هم غالباً من طبقة السلطة المحيطة به , وهم في منأى عن أية مساءلة , لأن الملك من يتحمل الوزر نيابة عنهم , وما دام هؤلاء لهم مصالح ولديهم مشاعر لا تكون عادة ايجابية بالضرورة نحو الملك .
إذن--فكيف يكون لصالح الملك أن يمارس صلاحيات يعتمد في إنفاذها على هؤلاء إذا ما علمنا أن احتمال التوريط فيها يظل وارداً وبنسبة عالية -بدليل ما آلت إليه أحوال البلاد – . الا يعتبر ذلك بمثابة وجع رأس للملك , قد يكون من الأفضل له أن ينأى بنفسه عنه .
أما الفئة الثانية : فتقول أن صلاحيات الملك المعتادة (ودعونا من نصوص الدستور وتأويلاته) هي خط أحمر لا ينبغي لأحد أن يقترب منها . وضروري جداً أن يظل الملك رأس كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية , وأن يظل وزيراً للدفاع وقائداً أعلى للجيش والقوات المسلحة والأمن العام – وذلك للأسباب التالية :
1- إن للأردن وضع خاص , وبنية ديمغرافية واجتماعية وجهوية خاصة, فيها فواصل حتى الآن ولم تلتحم كلياً بنية الدولة – وهذه حالة من شأنها – أينما وجدت وفي أي مجتمع من مجتمعات العالم – أن تغرق المجتمع بمشكلات التحيز والتعصب والتعنصر . فالوعي الإجتماعي العام وتمثل ثقافة المواطنة ومشاعر الإنتماء الوطني كأولوية أولى , ما زالا في البداية .
حتى الانتخابات البرلمانية كما نري تنتهي عادة إلى فرز شخصيات لا على أساس الكفاءة , بل على أساس التحيز العشائري أو الجهوي , أو الأقليمي أو الطائفي , أو الإثني , أو النوعي , سمه ما شئت – يفرزون من ينتخبون لا ليمثل الشعب أو ( الأمة ) بل ليمثلهم هم فقط , فكيف إذا وصلت أغلبية إلى البرلمان وصارت صاحبة القرار الأول والأخير تشريعياً وتنفيذياً , وكانت محكومة لمثل هذا الآفاق والآفات التحيزية الضيقة (ولاأحد بريء منها كما نلاحظ) ,
ألا يمكن أن تتخذ قرارات , تذهب بمصلحة البلاد كلها إلى الجحيم ؟ مع أنها قد لا تكون ممثلة إلا لمن انتخبوها فقط , لكنها بالتأكيد تظل قلة لا تكاد تذكر مقارنة ب 6 ملايين أردني , فمفهوم (الغالبية) مفهوم نسبي وليس مطلق .
ففي عالم الانتخابات في بلاد العرب تحسب الغالبية على أساس عدد ونسبة المشاركين فيها فقط . يعني الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع واقترعوا فقط , وهؤلاء لا يكونون الشعب كله , بل جزء فقط منه , والفائزون لا يمثلون كل هذا الجزء المشارك , بل الجزء الفائز من هؤلاء المشاركين فقط , فيبقى الجزء الذي لم يفز مضافاً إليه الجزء الذي لم يشارك ولم يذهب من الأصل لصناديق الإقتراع , دون تمثيل , فيصير التمثيل تمثيلاً للأقلية مهما كانت , رغم الإعلان بأن الفوز كان فوزاً للأغلبية , فأين العدل ؟ !
ولماذا كل هذا التمسك بالأغلبية , واضفاء كل هذه القداسة عليها , مع إنها تحتوي على كل هذا المقدار من التضليل ؟؟!!!
نعود إلى القرارات ونقول : ماذا لو أخذت هذه الأقلية مثل تلك القرارات ؟ ألا يمكن أن تكون صلاحيات الملك في مثل هذه الحالات الافتراضية صيانة للبلد وحماية له , إذ لا يعقل أن يرى التخريب ويسكت عنه . فذلك لا يهدد مصالح الشعب فقط , بل مصالحه هو , مع أن مصالحه في الواقع متحدة بمصالح الشعب ولا انفكاك بينها .
2- ثم : ماذا لو تقلصت صلاحيات الملك أو تخلى عنها كلياً , ثم حدث أن التقت مصالح السلطة التشريعية مع مصالح السلطة التنفيذية (الحكومة) ضد مصلحة الشعب (وهذا ممكن .. ألم يتفق النواب مع الحكومة الحالية أن (يهبروا) من خزينة الدولة وبيت مال الفقراء , رواتب تقاعدية ضخمة نظير خدمات قصيرة في المجلس قضى بعضهم معظمها بحالة تغيب عن الجلساب . ولا تقدر كلها بشيء , إذا ما قورنت بذاك العمر الطويل والجهد الشاق الذي يقضيه باقي الأردنيين في خدمة هذا البلد , ضباطاً في الجيش ومناورات في الغبرة والحر , وفي الأمن العام صدورهم مكشوفة أمام رصاص الحرامية والمطاريد , والمخابرات العامة الذين ينامون في مكاتبهم , والإستخبارات العسكرية المنهكة بمراقبة كل صغيرة وكبيرة , والوزارات والدوائر الحكومية المختلفة , حتى يخرج الواحد منهم بتقاعد متواضع (على قد الحال) , أين العدل في ذلك , ألم يتفق النواب مع الحكومة علينا وضربوا بأبسط مبادئ العدل عرض الحائط ؟؟ واذا حدث مثل هذا , فما المخرج من هذا المأزق إلا صلاحيات الملك ؟؟؟
3- ثم : ماذا لو صرنا ديمقراطيين (بالمرة) ولا صلاحيات للملك , بل للمؤسسات بدأً بالحكومة ونزولاً إلى أدنى مؤسسة , وقررت الحكومة الرشيدة ( إذا ما جاءت بالصدفة غير رشيدة وهذا وارد لأننا نحن من أوصلناها للحكم , ونحن نعرف مدى عقلانيتنا و مدى رشدنا ... !!!! أقول إذا ما قررت التنكرلكل اتفاقيات الأردن الدولية , و أردفته بقرار تجييش الشعب لغايات المزاودة الوطنية واللعب بعواطف فقرائنا لغايات انتخابية – ثم قامت بجمع أولادنا باسم التجنيد الإجباري أو الخدمة الوطنية سمّه ما شئت – فاللغة غنية واللسان مِبرد – ورمت بهم في الأغوار لغايات قتال العدو مثلاً على فارق القوة الموجود وحتمية مأساوية النتيجة , فما المخرج في هذه الحالة ؟؟ انتخابات جديدة ؟؟؟ فإذا تكررت التشكيلة ذاتها لأن الناخبين المعبأين لا يتغيرون بسرعة فما المخرج ؟ انتخابات جديدة أيضاً وهكذا ؟!
إذن لا نعود حينها نقيم في دولة , بل في ملعب لكرة القدم الذي تسوده لحظات ما بعد صفارة إنهاء المباراة !!!
4- ثم: ولكي نطالب بأن يكون الملك رمزاً فقط , مثل ملوك : اسبانيا , وبريطانيا , وهولندا ألا يقضي العدل والإنصاف بل والواقعية على الأقل , أن نطالب بأن يصير الأردنيون قبل ذلك : مثل اٌلإنكليز أو الهولنديين أو الاسبان , وإن عز ذلك فليكونوا كالشعوب الإسكندنافية على إعتبار أن هؤلاء غير استعماريين وقد نحب أن نصير مثلهم , ولديهم ملوكهم أيضاً وعلى الموديل المطلوب ؟!! فهل نحن كذلك يا سادة ؟ أو هل يمكن أن نكون كذلك ؟؟؟ في المستقبل المنظور ؟؟
الفئة الثالثة : وهذه تقول أن لا داعي للحديث أصلاً بهذا الموضوع لأن صلاحيات الملك محددة وليست مطلقة كما يتوهم العامة . أو كما تدعي الفئة الأولى : يكفي أن نفعل الدستور , وأن يأمر الملك بذلك بنبرة جادة آمرة لا يملك معها المراوغون أن يراوغوا. وأن لا يسمح لأحد المسؤولين , ابتداء من رئيس الحكومة (وضرته) رئيس الديوان الملكي , أن يخطئ طاعة للملك أو خدمة له , بل ويأمر بإصدار قانون يجرم كل من ينسب إليه كاذباً , أي أمر أو توجيه بفعل كذا أو قبول كذا . وأن تنفصل بالتمام وكلياً تبعية المحكمة الدستورية بثوبها الجديد عن السلطة التنفيذية , وكذلك هيئة مكافحة الفساد , وهيئة الاشراف على الانتخابات .
وإذا ما أراد الملك أن ينأى بنفسه عن ممارسة أية مهام تنفيذية فلا بأس من أن يحتفظ بصفة رأس الدولة وبسلطة القرار بحل أي سلطة مهما كانت إذا ما صار ضد تلك السلطة ما يشبه التململ الشعبي العام الذي قد يعبر عنه الناس بالأسلوب الجديد الذي دخل إلى ثقافتهم وهو (التظاهر السلمي) والتصريح علناً بمطالبهم وأوجاعهم .
أما رئاسة الحكومة , فلا بأس من أن يكون الملك صاحب القرار في تكليف الرئيس الذي قد يكون واحداً من ثلاثة أو أربعة يتم التوافق على تنسيبهم للملك من قبل مجلس النواب ... وحال تكليفه يصبح الرئيس وفريقه الوزاري تحت رقابة الشعب المباشرة . ورقابة مجلس النواب , وبخاصة المعارضة إن وجدت , ورقابة مؤسسات المجتمع المدني والإعلام , وكلها تعمل كمصادر لوضع صورة العمل الحكومي كما يجري في الواقع أولاً بأول أمام جلالة الملك . وفي هذه الحالة لا بأس من أن يظل الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والأمن العام , كأساس لضمان استقرار الدولة والنظام الملكي الذي ما زال رغم كل شيء : الأمر الوحيد الذي يحظي يتوافق وطني عام , فقضيتنا سهلة وتصبح أسهل إذا ما خلصت النوايا .
ضمن هذه الصورة البانورامية تجري التفاعلات في الساحة الأردنية .
وهكذا يتحدث الأردنيون .
و تتساءل هذه الفئة , ماذا يضير جلالة الملك لو نأى بنفسه عن أية سلطة , واحتفظ بكل جلال الملك ومهابته , وبكل الامتيازات المادية والمعنوية اللازمة لذلك , وكما يحددها ويقدرها بنفسه ؟؟ !
ويذكرون لغايات المقارنة والاقتداء ملوك العالم ممن يملكون ولا يحكمون في اسبانيا و بريطانيا , وهولندا -الخ ويرون إن انفراد جلالة الملك بتعيين رئيس الوزراء يلقي عليه مسؤولية فشل الحكومة وطاقمها, والملك في غنى عن كل ذلك ... و تبرر هذه الفئة ما تطرحه بالقول : إن جلالة الملك هو بشر في الأول والأخير, نشأ بأسرة ملكية , وتلقي تربية ملكية كأمير , وظروف مثل هذه التربية خاصة جداً . وتحول بالضرورة بينه وبين الإحاطة بكثير من أمور الناس كمزارعين وعمال وفلاحين وتجار و موظفين ورجال ونساء وشباب , كما تحول بينه وبين الاختلاط مع نوعيات البشر المختلفة من نصّابين وانتهازيين و مستقيمين ومنحرفين ولصوص ومدعين , ودجالين ومنافقين وحرامية , وهي صفات لا يحيط بها ولا يتسنى اتقاء شرها, إلا من اعتاد أن يجالس الناس يومياً في المضافات والدواوين والشوارع والأزقة والدكاكين والحارات والمولات والمقاهي الشعبية , وشاهد أو شارك باشكالات و طوش ومؤثرات وتكذيب , وتصديق الناس لبعضهم البعض وتعرض الكثير من المواقف مع الكثيرين من الناس .
كما تحول نشأة الأمير بينه وبين أن يلم ولو قليلاً بالطبيعة الفنية لعمل الوزارات والمؤسسات والجمعيات والأندية الليلية والنهارية ---الخ , هذه القائمة التي تمتد لتشمل معظم مفاصل حياة المجتمع .
ثم أن التربية الملكية ليست فقط هي الحاجبة عنه مشكلات الحياة هذه وهمومها وخصائصها واحتياجاتها , بل تتعاون معها عليه في ذلك مؤسسات الدولة . فلا مكان يمكن أن يزوره إلا و يقوم القائمون عليه (بتزييفه) ..
نعم يزيفونه , بإخفاء حقيقته عن عين الأمير أو الملك (الضيف بنظرهم) فلا يطلع إلا على واقع مزيف , وعندما يغادر يجلس القائمون هؤلاء ويتنفسون الصعداء قائلين (هييه الحمد لله عدَت على خير , ونجحنا أننا طلعناه مبسوط) (بمعنى أنهم قاموا بتضليله) (عادة عربية صارت راسخة والعياذ بالله) .
لكن هذا الأمير عندما يصبح ملكاً بصلاحيات كاملة , يصبح لزاماً عليه أن يأخذ قرارات قد تكون حاسمة .. وبمفاصل حيوية من حياة الدولة قد تكون غائبة عن معارفه الشخصية , فيضطر إلى الإعتماد على الآخرين من حوله..
ولا آخرين حول أي ملك أو رئيس يمكن إفتراض ولائهم المطلق له , هذا إذا سلم من كرههم . فالاحتكاك اليومي يولد ألفة وهذه تقلل من الكلفة فتستيقظ في النفوس دوافع الاستغلال والمصلحة فيعملون بإسلوب يزيد من اعتمادية الملك عليهم , فإذا ما شعروا بذلك – تفرعنوا وربما صاروا يتماهون مع الملك لكن بجرأة أكبر .
فالملك قد يحسب للخطأ ألف حساب ولو من باب المسؤولية الإخلاقية عنه , أما هم فلا يحسبون لذلك أي حساب لأنه لا مسؤولية إخلاقية ولا قانونية قد تلحق بهم ... فنصيبهم من أية عملية المغانم فقط , أما المغارم فعلى الملك , الذي لايجرؤ أحد على مراجعته أو مؤاخذته .. إذن فالغطاء لهم متوفر تماماً , فلماذا لا يكونوا أجرأ على الخطأ أو التوصية به أو الإغراء به , وبخاصة إذا كانت لهم مصلحة , فالمصالح الشخصية تتحقق , والمسؤولية على الملك , أما الشعب فأمامه البحر فليشرب منه حتى (يطق) .
ولاتختلف النتائج من حيث إمكانية الإشارة بالخطأ أو الإغراء به من قبل السلطة , إذا كانت علاقتها بالملك رسمية جداً , فمثل هذه العلاقة عادة تفرض على المحيطين بالملك أوالرئيس أو أي مسؤول , وجوب التذلل , أو المبالغة في احترامه مجبرين لاستحقاقات بروتوكولية , ولا خيار لهم إلا طاعته , وهذا من شأنه أن يزرع الكره في نفوس هؤلاء المحيطين , رغماً عنهم – إذ يستحيل من الناحية السيكولوجية كما يقول علماء النفس , أن يحب إنسان ما إنسان آخر يضطر لأي سبب أن يكون أمامه بهيئة أو أن يتصرف بطريقة يعرف أنها أقل مما يستحق , فيكره نفسه أولاً ثم يحيل هذا الكره بالضرورة نحو ذاك الآخر . فإذا ما سادت هذه المشاعر بين المحيطين بالملك, فقد لا يتمنون دائماً نجاحه في سريرتهم , رغم إستعدادهم لكبت هذه المشاعر والتعايش مع هذا الواقع لخدمة مصالحهم ولو على حساب شعورهم باحترام الذات .
ولعل هذا أحد الأسباب التي تقف وراء بعض القرارات التي اتخذها الملك بتنسيب من بعض هؤلاء وإغراءاتهم التبريرية , وعندما صدف أن اطلع الملك على الحقيقة عاد عنها مثل مسألة (الأراضي) المعروفة , وليت الآخرون بمثل هذا الفعل والفضيلة يقتدون .
ويخلص هؤلاء إلى القول بايجاز : أن التربية الملكية الخاصة , وجهود كافة مؤسسات الدولة في مجال تزوير الحقائق وتزييفها أمام الأمير أو الملك أو الرئيس, تفرض عليه ضرورة الإعتماد على آراء وتنسيبات الآخرين ليأخذ على أساسها قراراته ويمارس صلاحياته . وطالما أن الآخرين هم غالباً من طبقة السلطة المحيطة به , وهم في منأى عن أية مساءلة , لأن الملك من يتحمل الوزر نيابة عنهم , وما دام هؤلاء لهم مصالح ولديهم مشاعر لا تكون عادة ايجابية بالضرورة نحو الملك .
إذن--فكيف يكون لصالح الملك أن يمارس صلاحيات يعتمد في إنفاذها على هؤلاء إذا ما علمنا أن احتمال التوريط فيها يظل وارداً وبنسبة عالية -بدليل ما آلت إليه أحوال البلاد – . الا يعتبر ذلك بمثابة وجع رأس للملك , قد يكون من الأفضل له أن ينأى بنفسه عنه .
أما الفئة الثانية : فتقول أن صلاحيات الملك المعتادة (ودعونا من نصوص الدستور وتأويلاته) هي خط أحمر لا ينبغي لأحد أن يقترب منها . وضروري جداً أن يظل الملك رأس كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية , وأن يظل وزيراً للدفاع وقائداً أعلى للجيش والقوات المسلحة والأمن العام – وذلك للأسباب التالية :
1- إن للأردن وضع خاص , وبنية ديمغرافية واجتماعية وجهوية خاصة, فيها فواصل حتى الآن ولم تلتحم كلياً بنية الدولة – وهذه حالة من شأنها – أينما وجدت وفي أي مجتمع من مجتمعات العالم – أن تغرق المجتمع بمشكلات التحيز والتعصب والتعنصر . فالوعي الإجتماعي العام وتمثل ثقافة المواطنة ومشاعر الإنتماء الوطني كأولوية أولى , ما زالا في البداية .
حتى الانتخابات البرلمانية كما نري تنتهي عادة إلى فرز شخصيات لا على أساس الكفاءة , بل على أساس التحيز العشائري أو الجهوي , أو الأقليمي أو الطائفي , أو الإثني , أو النوعي , سمه ما شئت – يفرزون من ينتخبون لا ليمثل الشعب أو ( الأمة ) بل ليمثلهم هم فقط , فكيف إذا وصلت أغلبية إلى البرلمان وصارت صاحبة القرار الأول والأخير تشريعياً وتنفيذياً , وكانت محكومة لمثل هذا الآفاق والآفات التحيزية الضيقة (ولاأحد بريء منها كما نلاحظ) ,
ألا يمكن أن تتخذ قرارات , تذهب بمصلحة البلاد كلها إلى الجحيم ؟ مع أنها قد لا تكون ممثلة إلا لمن انتخبوها فقط , لكنها بالتأكيد تظل قلة لا تكاد تذكر مقارنة ب 6 ملايين أردني , فمفهوم (الغالبية) مفهوم نسبي وليس مطلق .
ففي عالم الانتخابات في بلاد العرب تحسب الغالبية على أساس عدد ونسبة المشاركين فيها فقط . يعني الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع واقترعوا فقط , وهؤلاء لا يكونون الشعب كله , بل جزء فقط منه , والفائزون لا يمثلون كل هذا الجزء المشارك , بل الجزء الفائز من هؤلاء المشاركين فقط , فيبقى الجزء الذي لم يفز مضافاً إليه الجزء الذي لم يشارك ولم يذهب من الأصل لصناديق الإقتراع , دون تمثيل , فيصير التمثيل تمثيلاً للأقلية مهما كانت , رغم الإعلان بأن الفوز كان فوزاً للأغلبية , فأين العدل ؟ !
ولماذا كل هذا التمسك بالأغلبية , واضفاء كل هذه القداسة عليها , مع إنها تحتوي على كل هذا المقدار من التضليل ؟؟!!!
نعود إلى القرارات ونقول : ماذا لو أخذت هذه الأقلية مثل تلك القرارات ؟ ألا يمكن أن تكون صلاحيات الملك في مثل هذه الحالات الافتراضية صيانة للبلد وحماية له , إذ لا يعقل أن يرى التخريب ويسكت عنه . فذلك لا يهدد مصالح الشعب فقط , بل مصالحه هو , مع أن مصالحه في الواقع متحدة بمصالح الشعب ولا انفكاك بينها .
2- ثم : ماذا لو تقلصت صلاحيات الملك أو تخلى عنها كلياً , ثم حدث أن التقت مصالح السلطة التشريعية مع مصالح السلطة التنفيذية (الحكومة) ضد مصلحة الشعب (وهذا ممكن .. ألم يتفق النواب مع الحكومة الحالية أن (يهبروا) من خزينة الدولة وبيت مال الفقراء , رواتب تقاعدية ضخمة نظير خدمات قصيرة في المجلس قضى بعضهم معظمها بحالة تغيب عن الجلساب . ولا تقدر كلها بشيء , إذا ما قورنت بذاك العمر الطويل والجهد الشاق الذي يقضيه باقي الأردنيين في خدمة هذا البلد , ضباطاً في الجيش ومناورات في الغبرة والحر , وفي الأمن العام صدورهم مكشوفة أمام رصاص الحرامية والمطاريد , والمخابرات العامة الذين ينامون في مكاتبهم , والإستخبارات العسكرية المنهكة بمراقبة كل صغيرة وكبيرة , والوزارات والدوائر الحكومية المختلفة , حتى يخرج الواحد منهم بتقاعد متواضع (على قد الحال) , أين العدل في ذلك , ألم يتفق النواب مع الحكومة علينا وضربوا بأبسط مبادئ العدل عرض الحائط ؟؟ واذا حدث مثل هذا , فما المخرج من هذا المأزق إلا صلاحيات الملك ؟؟؟
3- ثم : ماذا لو صرنا ديمقراطيين (بالمرة) ولا صلاحيات للملك , بل للمؤسسات بدأً بالحكومة ونزولاً إلى أدنى مؤسسة , وقررت الحكومة الرشيدة ( إذا ما جاءت بالصدفة غير رشيدة وهذا وارد لأننا نحن من أوصلناها للحكم , ونحن نعرف مدى عقلانيتنا و مدى رشدنا ... !!!! أقول إذا ما قررت التنكرلكل اتفاقيات الأردن الدولية , و أردفته بقرار تجييش الشعب لغايات المزاودة الوطنية واللعب بعواطف فقرائنا لغايات انتخابية – ثم قامت بجمع أولادنا باسم التجنيد الإجباري أو الخدمة الوطنية سمّه ما شئت – فاللغة غنية واللسان مِبرد – ورمت بهم في الأغوار لغايات قتال العدو مثلاً على فارق القوة الموجود وحتمية مأساوية النتيجة , فما المخرج في هذه الحالة ؟؟ انتخابات جديدة ؟؟؟ فإذا تكررت التشكيلة ذاتها لأن الناخبين المعبأين لا يتغيرون بسرعة فما المخرج ؟ انتخابات جديدة أيضاً وهكذا ؟!
إذن لا نعود حينها نقيم في دولة , بل في ملعب لكرة القدم الذي تسوده لحظات ما بعد صفارة إنهاء المباراة !!!
4- ثم: ولكي نطالب بأن يكون الملك رمزاً فقط , مثل ملوك : اسبانيا , وبريطانيا , وهولندا ألا يقضي العدل والإنصاف بل والواقعية على الأقل , أن نطالب بأن يصير الأردنيون قبل ذلك : مثل اٌلإنكليز أو الهولنديين أو الاسبان , وإن عز ذلك فليكونوا كالشعوب الإسكندنافية على إعتبار أن هؤلاء غير استعماريين وقد نحب أن نصير مثلهم , ولديهم ملوكهم أيضاً وعلى الموديل المطلوب ؟!! فهل نحن كذلك يا سادة ؟ أو هل يمكن أن نكون كذلك ؟؟؟ في المستقبل المنظور ؟؟
الفئة الثالثة : وهذه تقول أن لا داعي للحديث أصلاً بهذا الموضوع لأن صلاحيات الملك محددة وليست مطلقة كما يتوهم العامة . أو كما تدعي الفئة الأولى : يكفي أن نفعل الدستور , وأن يأمر الملك بذلك بنبرة جادة آمرة لا يملك معها المراوغون أن يراوغوا. وأن لا يسمح لأحد المسؤولين , ابتداء من رئيس الحكومة (وضرته) رئيس الديوان الملكي , أن يخطئ طاعة للملك أو خدمة له , بل ويأمر بإصدار قانون يجرم كل من ينسب إليه كاذباً , أي أمر أو توجيه بفعل كذا أو قبول كذا . وأن تنفصل بالتمام وكلياً تبعية المحكمة الدستورية بثوبها الجديد عن السلطة التنفيذية , وكذلك هيئة مكافحة الفساد , وهيئة الاشراف على الانتخابات .
وإذا ما أراد الملك أن ينأى بنفسه عن ممارسة أية مهام تنفيذية فلا بأس من أن يحتفظ بصفة رأس الدولة وبسلطة القرار بحل أي سلطة مهما كانت إذا ما صار ضد تلك السلطة ما يشبه التململ الشعبي العام الذي قد يعبر عنه الناس بالأسلوب الجديد الذي دخل إلى ثقافتهم وهو (التظاهر السلمي) والتصريح علناً بمطالبهم وأوجاعهم .
أما رئاسة الحكومة , فلا بأس من أن يكون الملك صاحب القرار في تكليف الرئيس الذي قد يكون واحداً من ثلاثة أو أربعة يتم التوافق على تنسيبهم للملك من قبل مجلس النواب ... وحال تكليفه يصبح الرئيس وفريقه الوزاري تحت رقابة الشعب المباشرة . ورقابة مجلس النواب , وبخاصة المعارضة إن وجدت , ورقابة مؤسسات المجتمع المدني والإعلام , وكلها تعمل كمصادر لوضع صورة العمل الحكومي كما يجري في الواقع أولاً بأول أمام جلالة الملك . وفي هذه الحالة لا بأس من أن يظل الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة والأمن العام , كأساس لضمان استقرار الدولة والنظام الملكي الذي ما زال رغم كل شيء : الأمر الوحيد الذي يحظي يتوافق وطني عام , فقضيتنا سهلة وتصبح أسهل إذا ما خلصت النوايا .
ضمن هذه الصورة البانورامية تجري التفاعلات في الساحة الأردنية .
وهكذا يتحدث الأردنيون .