طبقة السلطة
لقد تعاظم دور طبقة السلطة في تعميق الهوة الاجتماعية بينها وبين طبقات الشعب وفئاته الأخرى ، وبخاصة الطبقتين الوسطى والدنيا وذلك منذ أوائل الثمانينات . وتتألف طبقة السلطة هذه من كبار البيروقراطيين المقربين من النخبة السياسية من نظام الحكم ، الى جانب الرأسماليين المتحالفين مصلحياً مع هذا النظام كما هو الحال في كل الدول الرأسمالية .
لقد عملت هذه الطبقة على إضعاف الطبقات الفقيرة والمتوسطة وتهميشها سياسياً واقتصادياً . فمن ا الناحية السياسية ، ابعدتها عن القرار وسدت السبل أمامها للمشاركة السياسية الحقيقية والفعالة ، ومن الناحية الاقتصادية ، أنهكت قواها الاقتصادية عبر سياسة عملت بموجبها على ترك هذه الطبقات تواجه مصيرها مع الظروف الاقتصادية التي صاحبت برامج التصحيح الاقتصادي ، وألقت على عاتق هذه الطبقات ، مهمة تكييف ظروفها الخاصة ونفقاتها المعيشية ، بما يتوازى مع حقيقة التآكل المستمر للدخل ، وتجميد الأمور ، مع ترك الأسعار وتكاليف المعيشة تتزايد دون رقابة أو ضبط
أدت هذه السياسة الى نزول الغالبية العظمى من أفراد هذه الطبقات الى ما دون خط الفقر ، الذي قضت الضرورة أيضاً ، بأن يتصاعد هو الآخر ليصل الى مستويات تقديرية تتراوح ما بين 300 دينار الى 600 دينار كحد أدنى للأجر المعقول .
إن ما حدث في المجتمع الأردني ، لا يتوافق مع المنطق الرأسمالي الذي يقضي بأن تأخذ طبقة السلطة في الحسبان مصالح الطبقات الفقيرة والمتوسطة ، ولا تهدد بشكل مباشر مصالح هذه الطبقات الشعبية ، كما حدث في الواقع .
وبالنتيجة وجدت هذه الطبقات نفسها وقد أُختزل دور الفرد فيها ليقتصر على دور العامل أو الأجير المستعبد ، تحيط به ظروف تجبره على أن يدفع كل ما ينتجه الى النخب المسيطرة ، على شكل ضرائب مختلفة عبر عمليات ما تسمى توزيع السلع والخدمات .
على العكس من ذلك ما يحدث في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة . حيث نجحت النخب السياسية والاقتصادية في تلك المجتمعات الديمقراطية ، في إقامة علاقات جيدة مع الطبقات الشعبية الأخرى وهي علاقات استقرت بوجدان العموم بأنها قائمة على أساس جيد ، وطبيعية ، ومنسجمة مع ذاتها . وفي ظل هذه الأجواء والمنهج الذكي في أداء الأدوار ، صار صغار الناس وحتى فقراؤهم يتخذون من النخب السياسية والاقتصادية نماذج يقتدون بها . بل على الأقل لا يعادونها ، كما هو واقع الحال في المجتمعات العربية عموماً ، وفي المجتمع الأردني على وجه الخصوص .
لقد مارست النخب السياسية والاقتصادية الأردنية دورها بتعالي في علاقتها بالطبقات الشعبية الأخرى ، فأدى ذلك الى تزايد ونمو الاستعداد لدى تلك الطبقات لرفض هذا الواقع رغبة منها لتجاوزه ، سواء باسلوب ناعم أو خشن إذا ما سنحت الفرصة المناسبة لذلك .
لم يطل انتظار هذه الطبقات كثيراً حتى حانت الفرصة لذلك . فقد دخل العالم مرحلة جديدة قوامها التركيز على حرية الانسان وضمان حقوقه ، وعلى الطهارة الادارية والشفافية ، والعمل على تمكين impowerment الطبقات الشعبية المقهورة ، وذلك عبر ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي انبثق في أعقاب انهيار المنظومة السوفييتية ونظامها الاشتراكي . وانفراد المعسكر العربي الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم كقطب وحيد لا منافس له .
كانت خيارات النخب السياسية ، والاقتصادية المتحالفة معها في الأردن ، تدور حول تهميش تلك الطبقات الشعبية من محدودي الدخل ، وعدم الاستماع الى احتجاجاتهم الأولية . وبدلاً من أن تتصرف هذه النخب بطريقة تجعل منهم قدوة يقتدي بها لجأت عبر أجهزتها الأمنية ، الى القمع المباشر بالقوة للمشاركين بتلك الاحتجاجات ، وفي الوقت نفسه باشرت العمل على برنامج يهدف كما تشير المعطيات الموضوعية المشاهدة ، الى اضعاف قوى الشعب ، وذلك بالعمل على تفتيتها وتمزيقها بآلية التحريض واثارة بعض الفئات وبخاصة ذات المرجعية العشائرية ضد الفئات الأخرى ، التي تسعى هي في الأساس الى تحريرها من الفقر والعبودية والاستلاب .
إن مثل هذه السياسة أو البرامج السياسية من شأنها إن استمرت خارج الوعي ، أن تدفع بالروابط الاجتماعية ببعديها الانساني والوجداني بين فئات الشعب نحو المزيد من الانحطاط . إن مثل هذه السياسة تظل فقيرة بالمضامين الاخلاقية ، لأنها تعني في مخرجاتها النهائية أن تحوّل الفئات الشعبية الفقيرة في المجتمع مثل العشائر ، الى فئات تعمل بشكل متناقض مع مصالحها ويصب بمصحلة طبقة السلطة دون أن تقصد ذلك .
إن ما يمكن أن نسميه برأسمالية الدولة كنهج انتهجته طبقة السلطة بشقيها السياسي والاقتصادي في المجتمع الأردني (أن تحالفت هاتان الطبقتان معاً) ؛ لم يسمح لها بأن تتصرف بعقلانية في مواجهة الرفض الشعبي والاحتجاجات التي تبلورت مؤخراً عبر ما يسمى بالربيع العربي الذي يُعد مؤثرا اقليميا له امتداداته الدولية والمحلية دون شك . ففي مثل هذه الحالات تقتضي العقلانية أن تنخرط طبقة السلطة في البحث عن حلول ، لكنها بدلاً من ذلك وجدت نفسها وقد انحدرت بسرعة أكبر نحو التأزيم ، سواء كان ذلك بوعي أو دون وعي . فأصل الأزمة بمنظورها اقتصادي بحت ، وهي نتيجة فُهِمت على إنها ثمرة لإدارة اقتصادية حلّقت بعيداً عن الواقع ؛ عندما باشرت بتطيق برامج للتصحيح الاقتصادي بتسرع أدى الى تراجع الدور التقليدي الرعوي للحكومة في المجالات الاقتصادية والخدماتية ، وتركت فئة الطبقات الشعبية تحت رحمة شركات القطاع الخاص ، التي لم تكن في الأصل مؤهلة لأداء هذه الأدوار الجديدة نحو الطبقات الشعبية بدلاً من الحكومة ، فارتفعت الأسعار ، وتعاظمت بالتوازي معها الاحتكارات والامتيازات ، واتسعت بشكل واضح للعيان ، الفجوات بين الشعب وبين طبقة السلطة ، فتآكلت أجور محدودي الدخل من كل الفئات دون فرق ، واختل التوازن الإقتصادي للدولة ، فكان لابد من تعظيم الضرائب وتنويعها عبر ما يسمى بضريبة المبيعات وغيرها ، إذ يبلغ عدد الضرائب التي يدفعها المواطن الأردني أكثر من 100 ضريبة .
ومما زاد الأمر سوءاً أن ارتفعت الأسعار ، وتكاليف المعيشة ، الى مستويات غير معتادة لا علاقة لها بمستويات الأجور لا من قريب ولا من بعيد . إن انسحاب الحكومة من مسؤولياتها نحو الأفراد وتزايد ضغط تكاليف المعيشة على دخولهم يُشعر الطبقات الشعبية بأنها ولأول مرة ، تقف وحيدة مكشوفة دون غطاء من حكومة مسؤولة ، فكان لابد لها من البحث عن البديل ، فكان أن طرحت العشيرة نفسها كمرجعية حاضنة للأفراد والجماعات لتوفير الأمن لها ، بمختلف أشكاله ، النفسي ، والاجتماعي ، والاقتصادي ، ...الخ ، وفي مثل هذا المناخ من الطبيعي أن تتراجع قيمة الدولة ومكانتها بنظر الأفراد الى المرتبة الثانية بعد العشيرة كبنية اجتماعية جامعة . ثم كان هناك أيضاً المجتمع البديل الذي تبشّر به الجماعات السياسية الوحيدة العاملة تقليدياً في الساحة الأردنية ، اعني الجماعات ذات المرجعية الدينية وبخاصة جماعة الأخوان المسلمين حيث التقطت هذه الجماعات الرسالة ، وفهمتها جيداً وادركت أن فرصتها قد حانت لفرض المجتمع البديل بعد أن اتسعت رقعة المؤمنين به من طبقات الشعب وزادت نسبتهم الى حد الحسم في أية انتخابات قد تجري في المجتمع سواء على مستوى الإدارات المحلية أو على مستوى مجلس الشعب ، أو على مستوى النقابات والتنظيمات المختلفة .
وبدأت هذه الجماعات العمل بالاقتراب أكثر من طبقة السلطة ومحاولة التكيف التكتيكي معها ، في الوقت الذي فهمت فيه الأخيرة بأن تلك المحاولة قد تمكنها من احتواء تلك الجماعات إذا ما استخدمت وسائلها التقليدية لتحقيق ذلك .
وتتمثل تلك الوسائل ، باغرائها ، أو اغراء بعض قياداتها بالامتيازات المختلفة مادية ومعنوية ، عبر آلية اسناد مناصب قيادية لعناصر منها في الحكومة والمجالس التشريعية . وقد تحقق لها ذلك فعلاً لكن الأثر لسلبي على تماسك الجماعة ومسيرتها باتجاه تحقيق أهدافها كان قليلاً ، فهذه المكاسب والامتيازات صارت مثار جدل داخل الأطر التنظيمية للجماعات الإسلامية ؛ تبلورت أزاءه وجهتا نظر : أحداهما ترى أن لا مانع من أن تشارك تلك الجماعات مع طبقة السلطة بالاستحواذ على بعض مراكز القرار ، وقبول بعض الأدوار السياسية الحساسة ، كي لا تستطيع طبقة السلطة أن تُهمّش هذه الجماعات بالكامل ، فهذا لا يخدم مصلحتها ، والأولى أن تكون على اطلاع بأمور الدولة والمجتمع . والأخرى ترفض بالمطلق مشاركة طبقة السلطة لا عبر الحكومة ولا غيرها ، لأن المشاركة في مثل هذه الحالة قد تُفهم على انها تواطؤ من قبل الجماعات الإسلامية مع الحكومة ضد الشعب وبخاصة إذا ما اضطر المشارك أن يسكت عن بعض أخطاء الحكومة . والساكت عن الخطأ مشارك فيه ، وهذا يتعارض مع أخلاق هذه الجماعات ومثلها الدينية وخطابها السياسي التي تبشّر به ، وبالتالي مع مصالحها السياسية وجاذبيتها التعبوية .
كانت النتيجة أن فشل ما سعت طبقة السلطة الى تحقيقه ، وبقيت اختراقاتها لبعض القيادات محدودة الأثر في مجال السياسة التنظيمية العامة ، بل لا أثر لها على الإطلاق في مجال الأهداف الإصلاحية التي تسعى هذه الجماعات الى تحقيقها في المجتمع الأردني . وظهرت مشاركاتهم مع طبقة السلطة أقرب ما تكون الى برامجماتية سياسية استعملها بعض الأفراد ، (وليس التنظيم) ببراعة ، بحيث لم ترفع في محصلتها النهائية من معنويات طبقة السلطة إذ فشلت في احتواء تلك الجماعات ولم تساعدها في تخفيض طموحات الجماعات الإسلامية ومعنوياتها بالمقابل ، كتنظيم له أهداف يسعى بثبات نحو تحقيقها .
ومهما يكن ، فإن أوائل الثمانينات ، تعد بداية العملية المستمرة حتى اليوم التي انطلقت فيها الجماعات الاسلامية نحو فرض مجتمعها البديل باسلوب سلمي ، وهي البداية ذاتها التي حاولت فيها الجماعات الاسلامية في مصر أن تعزل نفسها عن المجتمع المصري وأن تشكّل مجتمعاتها المنعزلة والمستقلة عن المجتمع الخارجي .
لقد طُرحت هذه المجتمعات للشباب المصري كمجتمعات بديلة عن واقعهم القائم الذي عصفت به قوى الشر والفساد التي أخضعت الشعب المصري لجبروت الشركات الاحتكارية المحلية المتحالفة مع النخبة المالكة وسطوتها .
وكما جرى في مصر ، اتجهت الأمور في المجتمع ا لأردني نحو المصير نفسه ، فكان ان اتجهت الجماعات الإسلامية في الأردن ، الوجهة نفسها التي اتجهتها الجماعات الإسلامية في مصر . إذ بدأت هذه الجماعات تشكل مجتمعاتها الخاصة بها داخل المجتمع الأردني ، بعد أن فقدت الأمل بصلاح هذا المجتمع ، وأخذت تتجمع في أحياء خاصة بها على أطراف المدن أو المناطق الهامشية ، مثل (حي صويلح الشرقي) حيث شكل مسجد عبدالرحمن بن عوف على سبيل المثال الذي بُني بجهود تلك الجماعات وقياداتها وأبرزهم الدكتور عبدالله عزام الذي كان له الإسهام الأكبر في بناء هذا المسجد ، لقد شكل هذا المسجد مركزاً إرشادياً لتلك الجماعات ومركزاً للسيطرة ، ومباشرة عملية الحشد والتعبئة الى جانب برامج للتوعية وتثقيف الشباب .
حاولت طبقة السلطة أن تواجه ذلك ، فكان أن طرحت قانونا للاحزاب لتنشيط التوجه الديمقراطي آنذاك ، وقد عبر عن ذلك الملك الراحل الحسين بن طلال بقوله عن التوجه الديمقراطي والانتخابات (أردتها في هذا الوقت) ، وذلك في سياق خطاب وجهه للشعب تحدث فيه عن التوجه الديمقراطي الجديد الذي أراده في ذلك الوقت كما قال – بمعنى أن القرار بالتوجه الديمقراطي للدولة كان قراراً من رأس طبقة السلطة – وفعلاً قامت الحكومة الأردنية باجراء الانتخابات النيابية عام 1989 بدرجة معقولة (كما أُشيع آنذاك) من الشفافية ، لكنها بكل تأكيد لم تكن نزيهة بالكامل ، لأنها رغم ما أُشيع عن حرية تلك الانتخابات ونزاهة القانون الذي أُجريت على أساسه ، إلا ان طبقة السلطة كانت قد حسمت الأمر مسبقاً وقررت أن تسمح بزيادة المقاعد التي يمكن للجماعات الإسلامية أن تحصل عليها في الانتخابات . وبالفعل كان عدد المقاعد يزيد قليلاً عن المألوف لكنه لم يكن يمثل حسب تقديرات هذه الجماعات وحسب مشاعر المواطنين العدد الحقيقي للمقاعد التي يمكن أن تحصل عليها هذه الجماعات لو كانت الانتخابات قد أُجريت بنزاهة تامة وحياد حكومي أكيد .
إن ما قامت به طبقة السلطة بهذا الخصوص ، يمكن أن يُفهم أو يُفسر على ان هذه الطبقة قد شعرت بالأزمات الاقتصادية ، و الاجتماعية ، والثقافية التي تسببت بها إدارتها لشؤون الدولة والمجتمع ، وبالتالي صار من الخير لها من وجهة نظرها أن تشرك الجماعات المعارضة بالادارة ، كي تنال نصيبها من المسؤولية عن تلك المشاكل والأزمات ، أو نصيبها من الاتهام بالعجز عن معالجتها إذا ما فشلت الجهود الرسمية ، ورأت أنها قد تحقق بذلك ثلاثة أهداف :
الأول : نفي تفرد طبقة السلطة بالقرار وبالمسؤولية عن الازمة بكافة أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، والتأكيد على أن الجماعات الإسلامية لها نصيبها من تلك المسؤولية ولو على الأقل نصيبها من الفشل في مواجهة هذه المشاكل أو حلها .
الثاني : أن هذه الجماعات ليست معارضة كلية كما تطرح نفسها للناس ، فهي لا تعارض الواقع القائم ، بل تتطلع فقط لأن تشارك فيه وقد أفسح لها المجال فشاركت فيه ، فالذي يشارك آخر يتطلع في العادة الى أن يقاسم ذلك الآخر ما يشاركه فيه ، وليس الى رفضه بالكامل أو نفيه . إن ذلك قد يقلل بنظر طبقة السلطة من بريق تلك الجماعات الإسلامية وجاذبيتها بنظر الفئات الشعبية المناصرة لها والمتأثرة بخطابها التعبوي العاطفي .
الثالث : إن اشراك الجماعات الإسلامية بالسلطة التنفيذية والتشريعية ، يشكل فرصة لاحتواء زخم حراك هذه الجماعات التي بدأت تتململ بوضوح في المحيط العربي للتحول الى حركة معارضة شرسة وبخاصة في مصر وسوريا ، منذ أواخر السبعينات انتهت بأن قمعت في سوريا بعنف شديد ، وفي مصر انتهت الى مقتل الرئيس المصري أنور السادات على يد خالد الاسلامبولي وهو واحد من كوادر الجماعات الاسلامية المصرية .
أما على الصعيد الأردني فلم تتحقق أي من الأهداف التي سعت اليها طبقة السلطة في الأردن ، واستمر الحراك السياسي الاسلامي على خط التصعيد انتقالاً الى مرحلة التحريض ضد طبقة السلطة والتخطيط الفعلي لضرب هذه الطبقة أو ضرب هيبتها في أكثر من مناسبة.
إن طبقة السلطة ، وبدلاً من أن توجه جهودها لنزع فتيل هذا التداعي في الموقف بينها وبين جماعات المعارضة (وعلى رأسهم الجماعات الاسلامية التي تطرح نفسها معبرة عن تطلعات فئات الشعب الفقيرة والمتوسطة وآمالهم) ، وذلك بأن تطبق برامج اصلاحية فعلية وحقيقية في المجالين السياسي والاقتصادي ، تحديداً وكأولوية أولى ؛ انصرفت وعلى عكس كل التوقعات نحو التصرف بطريقة هي أقرب ما تكون الى إدارة الأزمة بتأزيمها أكثر ، فانتقلت بسرعة الى تطبيق برنامج الخصخصة وبيع أصول الدولة (باسلوب وطرق اثارت كثير من الشكوك) للقطاع الخاص المحلي والأجنبي قبل أن تتأكد من جاهزية القطاع الخاص واستعداده (النفسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي) للقيام بأدوار اعتادت الحكومة والقطاع العام أن يقوم بها خدمة للناس . ودون أن تتأكد أيضاً من جاهزية القطاع الخاص هذا ، وكفاءته ومدى انحيازه للصالح الوطني .
وعلى المستوى السياسي تراجعت طبقة السلطة عن الحياد النسبي الذي التزمت به وعلى أساسه أجرت انتخابات 1989 ، وسعت الى تطويق الجماعات الاسلامية ونفوذها السياسي المتعاظم واستخدمت الآلية التشريعية لتحقيق ذلك . فكانت أن سنّت قانون الصوت الواحد ، لكي تضع التزام الأفراد التنظيمي مع تلك الجماعات ، في صراع مع التزاماتهم العشائرية والقرابية ، على افتراض أن كفّة الإلتزام العشائري سوف تكون الراجحة بمنظور الأفراد . فتخسر الجماعات الاسلامية شيئاً من نفوذها السياسي المتنامي بسرعة .
فهمت الجماعات الاسلامية أن هذا القانون ما هو إلا نوع من الالتفاف باستخدام القانون للحد من مشاركتها السياسية بمستوى يتناسب مع ثقلها الاجتماعي في المجتمع ، فعارضت القانون واستمرت بمعارضته والمطالبة بتغييره . وبذلك أضافت طبقة السلطة سبباً آخر للإحتقان الشعبي ، ونفوذ أكبر لقوى المعارضة .
ولم تكتف بذلك بل وبدلاً من أن تقترب طبقة السلطة من طبقات الشعب المقهورة أكثر ، جنحت نحو عزلة نفسها عن تلك الطبقات . وهي عزلة كانت مقابلة لعزلة الجماعات الاسلامية ، لكنها مخالفة لها في الاتجاه ، فعزلة الجماعات كانت تقربها من الطبقات الشعبية لأنها استهدفت المناطق الشعبية ، بينما العزلة التي اختارتها طبقة السلطة قد ابعدتها عن تلك الطبقات الشعبية ، حيث اختصت بتكوين أحياء خاصة بها زادت من تميزها الطبقي الرأسمالي عن الفئات الشعبية ، ورفعت من أسعار أراضي تلك الأحياء الى مستويات لا تقدر عليها أي من الطبقات الشعبية ، لتظل حكراً على الأغنياء ، وحيث بلغ ثمن الدونم الواحد من أراضي تلك الأحياء الملايين أو حول ذلك كما هو في أحياء عبدون ودابوق في عمان وغيرها .
لقد فهم القطاع الخاص هذا الدور الجديد و هذه المرحلة ، وكأنها دعوة مفتوحة له كي يشارك النخبة السياسية ليشكلا معاً حلفاً في مواجهة الطبقات الشعبية الفقيرة والمتوسطة ، في الوقت نفسه شكل هذا التحالف فرصة للجماعات الاسلامية بأن تعتبر نفسها ممثلة لتلك الطبقات واخذت تلح و تطالب بتفكيك هذا التحالف ، وإعادة الحقوق المسلوبة للطبقات الشعبية .