عن الاسلام والحرب عليه
د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :
سأبدأ مقالتي بقوله تعالى "والله غالبٌ على أمره ... ولكن أكثر الناس لا يعلمون..." وأنتهي بالقول ذاته !!!
تعبّر الأفكار الواردة في هذا المقال عن رؤيا علمية موضوعية حزينة ودفينة في قلب الكاتب ... وهي تشخيص لقراءة متمعنة في عدة قرون من تاريخ الأمة ... منذ تآمرْ مؤيد الدين ابن العلقمي على الدولة العباسية ... مروراً بنهاية الدولة العربية الإسلامية في الأندلس مع آخر ملوكها عبدالله الصغير ... وحتى هذه اللحظات من القرن الحادي والعشرين ...
قبل عدة أشهر طرحت سؤالاً على أصدقائي الذين أتعامل وأتواصل معهم بشكل دوري ... يومياً أو أسبوعياً ... وعلى أصدقائي في صفحة الفيس بوك ... يتعلق بماهية الإسلام والفرق، بما ورد فيه، بين العبادات والمعاملات ... وقلت حينها بأن الإسلام محيطٌ عظيم، تُشكِلُ العبادات فيه فقاعة بسيطة ... على الرغم من أساسيتها ... ومن غير التوحيد لا يوجد إسلام ... وتأتي المعاملات في الإسلام، من وجهة نظري، بعد التوحيد ... وهي، أي المعاملات، تُشكل الجزء الأعظم من محيط الإسلام ... وتشمل قضايا مثل الإدارة وممارستها وعلاقة الحاكم بالمحكوم وتعامل البشر مع بعضهم بواسطة العقل والمنطق !!!
تلقيت أجوبة وتعليقات كثيرة ومثيرة على ذلك السؤال الغريب ... فقد أيد معظم الذين تفاعلوا مع السؤال فهمي وتشخصي وتحليلي وموقفي... وأنكره آخرون ... وكانت حجة الذين أنكروه أن العبادات هي الأصل والمعاملات هي فروعٌ تنبثقُ عن الأصل الثابت ... لم أحاول إقناع المنكرين لرأيي بسبب الوقت ... وها أنا أضعها تحت عنوان سافر ... هو نهاية الإسلام ... لأسباب موضوعية سآتي عليها في السطور المقبلة ...
تبدأ قصتنا الراهنة، وعلى عجالة، منذ أيام الخليفة المستعصم بالله (1258) ... دققوا معي في لقب الخليفة ... وقد كان المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في بغداد ... قتله هولاكو وقتل معه معظم أهل بغداد ... وقام هولاكو وقتئذٍ بحرق بغداد بدءاً بالمكتبات والمساجد ... واستولى على ثروات الدولة في بيوت المال وقصور الخليفة والأمراء ... وفي القرن الحادي والعشرين ... وهو عصر الفضاء والثراء والعلم والعقل لم يختلف سلوك جورج بوش الأب والابن عما فعله هولاكو قبل ما يقرب من ثمانمائة عام ...
تمر قصتنا الحزينة بآخر ملوك الأندلس الملقب بـ الغالب بالله ... الذي استسلم لفرديناند وإيزابيلا يوم 2 كانون الثاني (1492 ) ... ومن مفارقات الأمور أن الإسبان قد أسموه el chico ... أي الصغير ... وBoabdil (أبو عبديل)، أما أهل غرناطة فقد سموه الزغابي ... أي المشؤوم أو التعيس ... فقد تآمر عبدالله الصغير مع الفرنجية والإسبان الذين أغروه بمحاربة إخوانه من أمراء العرب - المسلمين في بقاع الأندلس المترامية ... وقد أطلق عليهم المؤرخون ملوك الطوائف أو دول الطوائف بسبب الأحقاد التي انتشرت بينهم والجهل الذي انتشر بين رعاياهم ... وقد انحصر الحافز في عداواتهم لبعضهم في الطمع بإماراتهم وثرواتهم وخوفاً منهم بسبب انعدام الثقة بهم جراء الإشاعات التي بثّها الفرنجة بين عامة العرب والمسلمين ... فكانت الطامة ثم الهزيمة والاستسلام المُذل ... وهذا الصورة المحزنة لا تختلف كثيراً في شكلها ومضمونها عما يجري في هذه الأيام !!! ولنأخذ سوريا وليبيا والسودان واليمن أمثلة حية ...
تنتهي قصتنا المُحزنة ... التي ستستمر حتى يأتي الله بأمره ... في هذا اليوم الخامس من أيار 2019 ... أي بعد مرور ما يقرب من ثمانية قرون متتالية من الانتصارات والهزائم ... ثم الاستسلام الراهن بعد ما سُمي الربيع العربي ... وهو الأملأ بالمهانة والأكثر مصيبة واحتقاراً لروح الأمة ...
ما جمعته من قراءتي العميقة لهذه القرون الطافحة بالأحداث المريرة كان القواسم أو الجوامع المشتركة في مفاصل التاريخ ... وقد صنفت هذه المفاصل تحت عنوانين متداخلة وجامعة ... شملت الاقتصاد والإدارة والعلاقات بين الحاكم والمحكوم والعلاقات مع العالم الخارجي ... وتوصلت إلى نتيجة محزنة ومذهلة عن التماثل بين الأمس واليوم ... يمكنني تلخيصها في جملة واحدة ... وهي أن أسباب الانتصار والهزيمة تندرج تحت العنوانين الرئيسة ذاتها: تخريب الاقتصاد أو تعميره ... وفساد الإدارة أو صلاحها ... وتوهين علاقة الحاكم مع المحكوم أو تقويتها ... وإيثار الغريب على الأخ والقريب مقابل الثقة بالأخ والقريب وعدم الاطمئنان لمشورات الغريب الأجنبي ... والعلاقات مع العالم الخارجي ...
يعود سبب اختياري لعنوان المقالة "نهاية الإسلام" إلى التماثل الصادم للظروف التي تآلفت قبل كل انتصار أو هزيمة وانكسار مع ظروف هذه الأيام ... لكن ظروف القرون السبعة الغابرة كانت ممزوجة بروح الأمل ورغبة عامة الناس وخاصتهم بالمقاومة ... وهي ذات الظروف التي دفعت بقادة عظام إلى موقع الصدارة كي يقودوا الأمة إلى الانتصار ... ومنهم صلاح الدين الأيوبي ومحمد الفاتح ... فلا تمر، خلال تلك الفترة، مئة سنة حتى يظهر مجتهدون ومجددون ومجاهدون سخّروا أنفسهم كي يقلبوا الأمور بشكل يعكس مجرى التاريخ ... فبعد استفحال خطر المغول ظهر المماليك الذين عكسوا اتجاه التاريخ ... وبعد استفحال خطر الصليبيين ظهر صلاح الدين الأيوبي وغيّر مجرى التاريخ ...
أما الكارثة الراهنة فهي أشبه بحالة النزاع الأخير الذي تعاني منه الأمة ... لأن الهزيمة أخذت أشكالاً متعددة وتعمقت بفعل علمي منظم ... أخطرها الهزيمة النفسية والمعرفية والاعتماد على الغريب الأجنبي في كل شيء والثقة به على حساب الثقة بالرعية والأخوة ...
لماذا أعتبر الكارثة الراهنة المسمار الأخير في نعش الإسلام التقليدي ؟!!!
أولاً) كانت الدولة الإسلامية في أيام المغول (التتار) متماسكة بشكل قوي، إلا من جبهتها الشرقية، التي جاء منها الحقد الطائفي وكانت مصدراً للتآمر والتخريب .... وكان الجسم السكاني متماسك العقيدة الدينية والسياسية والاجتماعية إلى حدٍ بعيد ... وقد منح هذا التماسك بُعداً استرايجياً للقيادات التي قاومت الغزو الأجنبي ... أما في هذه الأيام فإن الأمة محاصرة من داخلها وخارجها !!! ... فيتمثل الحصار الداخلي في آلة القمع التي تمارسها السلطة السياسة في الدولة الحديثة ... ويتمثل الحصار الخارجي في التكتلات العالمية الكبرى المُناوءة لكل ما هو عربي ومسلم ... وللنظر إلى موقف الصين واليابان وروسيا وأوروبا وأمريكيا ... من قضايا العرب والمسلمين ...
ثانياً) لم تكن أيام المغول، ولا الصليبيين، دولة عميقة بالمعنى الحديث ... أي أن صمود الجبهة الداخلية كان عاملاً حاسماً في إلحاق الهزيمة بالأجنبي ... وعلى الرغم من تآمر أمراء ذلك العصر واستعانتهم بالأجنبي مثلما فعل عبدالله الصغير بأخوانه من أمراء الطوائف ... وما فعله بعض الأمراء الذين استكثروا على صلاح الدين قيادته لحرب تحرير فلسطين ... إلا أن قوة الجبهة الداخلية عملت على إبقاء الأمة حية ...
ثالثاً) اقتصر الفساد في القرون الغابرة على بعض الخلفاء الضعاف والأمراء الجهلة ... وانحصر فسادهم في الشهوات الجنسية ... أما فساد هذه الأيام فهو شبه شامل عمّ وشمل فيه نخب السياسة والمجتمع البشري العام، والمجتمع العلمي والتجاري ... وعامة الناس وخاصتهم ... باستثناء الأقلية القليلة ...
رابعاً) لم يكن في القرون الغابرة دول عظمى بالمعنى الحديث ... كان المغول جهلة رعاة وبدو جاؤوا من أواسط آسيا طمعاً بالمجهول ... أما الآن فإن هناك دولاً وتكتلات عظمى بكل ما في المصطلح من معنى ... تتسلح هذه التكتلات العظمى بالعلم والمعرفة والتقانة والمنهج ... ولها أهداف محددة تتمثل في إهلاك الأمة عن طريق التفتيت ونهب الثروة وتنصيب الجاهل المتآمر على أمته وحمايته ... ثم تدمير الجبهة الداخلية بواسطة الدراسات والعلم والبحث عن نقاط الضعف والبناء عليها ...
خامساً) لم يكن في القرون الغابرة آلات إعلامية جبارة ... أما في الوقت الراهن فقد سخّر الأجنبي الطامع كل وسائل الإعلام الممكنة من أجل تجهيل الشعوب وتغيير القناعات وتعديل الثوابت ... ساعدهم في تحقيق ذلك الثروة التي حصل عليها جهلة الأمة ... ومنها جزء من ثروة النفط ...
سادساً) كانت موارد الأمة، في القرون الغابرة، مملوكة من الأمة ... كانت مياهها وطعامها ولباسها من داخلها ... أما الآن فإن طعام ولباس وبعض مياه الأمة يأتي من الخارج ...
سابعاً) كانت الأمة في ما مضى من قرون تصنع سلاحها ... أما الآن فليس هناك سلاح يُصنع داخل أراضي الأمة ... ولا يُسمح أن يُستخدم السلاح المستورد إلا تحت شروط محددة مسبقاً ....
ثامناً) كان المجتمع والقيادة خلال القرون الغابرة كلٌ واحد لا يتجزأ ... أما الآن فهناك انفصال واضح بين بين القمة والقاعدة ...
تاسعاً) كانت القيادة في ما مضى تسمع لنصائح النبيئين من العلماء ... أما الآن فإنه لا صوت يعلو فوق صوت الجهل والعمى !!!!
عاشراً) كان علماء الدين في ما مضى من قرون أصحاب رأي حقيقيين ... يعطون للراعي المشورة الحقيقية التي ظنوا بها متوافقة مع المنطق والدين والأخلاق ... أما الآن فقد أصبحوا مصدراً لتخريب العقيدة وفتاوى الإعدامات !!!
حادي عشر) انحصرت هزائم القرون الماضية في الجانب العسكري ... أما الآن فإن الهزيمة شاملة للبُعد العسكري والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي والمعرفي والعلمي ...
ثاني عشر) كانت المساجد ودور العلم منارات للعلم والتربية ... أما الآن فإن كثيراً من المساجد والجامعات لا ترسخ إلا الجهل وحب الشهوات ...
بناءً على ما تقدم ... أعتقد بأن الإسلام بمعناه الذي جاء به الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد انتهى ... إلا من صدور القلة من أبناء الأمة ... والسلطة السياسية لهؤلاء بالمرصاد .... لكن ومع كل الشؤم الذي أراه فإن الله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ... وأظن يقيناً بأن الله تعالى سيبعث من بين ظهرانينا من يجدد فكر الأمة ويجتهد ويجاهد ثم يُلحق الهزيمة بالأعراب وحلفائهم من الصهاينة والغرباء ...