jo24_banner
jo24_banner

الوثنية المُستجدة وأوهام التحرر والتقدم والتنمية

د. عبدالرزاق بني هاني
جو 24 :
كتب الدكتور عبد الرزاق بني هاني - 

يَسودُ في نفسي اعتقادٌ يقتربُ من درجة اليقين، عادة ما أتحدث عنه مع جوانية نفسي. ومفاد هذا المعتقد، باختصار ٍ لا يُفرّط بعمق معناه، أن هناك تماثلاً حاداً بين الجهل والثقب الأسود (black hole) ... فالثقب الأسود، كما يصفه علماء الفيزياء الكونية، هو كائن مجهول الهيئة والهوية، فيه طاقة سوداء هائلة، يستطيع أن يلتهمَ كواكب ونجوم، حتى أن الضوء لا يستطيع الانفلات من قوة جاذبيته المُدمرة.

يكمن وجه التماثل بين الثقب الأسود، من جهة، والجهل وصاحب الجهل، من جهة أخرى، أن الإثنين مشتركان بالظلام، وأن الجاهلَ قادرٌ بسلاحه السام، وهو الجهل، على التهام طاقتك وسعادتك وفكرك، وإذا تآلف جاهلٌ مع آخر، ثم مع آخر، حتى يصبحوا مجموعة وعصابة، فإنهم قادرون على التهام طاقة دولة ومجتمع بأكمله، وقادرون على إلحاق أفدح الأضرار بسعادة الناس وأفكارهم ومستقبلهم، وعلى تدمير موارد الدولة، حيث هم. ويكمن سر ذلك في حقيقة صارخة، تقول بأن هناك طاقة طبيعية هائلة، سوداء ومدمرة، موجودة في الجهل وسلطة الشهوة، والوهم. وممارسة سلطة الشهوة بالمعنى السلبي، وتسويق الوهم، هما من صناعة الجهل والخيانة، بامتياز.

كنت مغرماً، أيام شبابي، بالقراءة لبعض الفلاسفة المشهورين، من أمثال أرسطو وسقراط وبيكون. وكانت بعض العبارات المُدوَنة، على لسان أحدهم، تشدني دون غيرها بشكلٍ لافت، وخاصة إذا تعلقت بعلاقة الانسان مع العالم من حوله، وَتوَهُمِه وظنه برؤية الأشياء على خلاف الواقع... وأتذكر باستمرار حديث الفيلسوف العظيم فرانسيس بيكون عما أسماه الأوثان (Idols)، وهو ذات المُصطلح الذي ترجمه المختصون العرب تحت مُسمى الأوهام، لا أعرف لماذا، لكنني مع ذلك أصر على أن الفيلسوف العظيم قصد الأوثان بمعناها الحرفي. والأوثان هي مصنوعات وأنماط فكرية وهمية، نسجها وبناها بعض البشر من وهن عقولهم، وعبدها بعض الأفراد والجماعات. وقد صنفها بيكون تحت أربعة أشكال: أوثان القبيلة (Idols of the Tribe)، وأوثان الكهف (Idols of the Cave)، وأوثان السوق (Idols of the Marketplace)، وأوثان المسرح (Idols of the Theater) ...

قصدَ بيكون بـ أوثان القبيلة، كلية المجتمع باعتباره مصنعاً للثقافة، يبيع هذا المصنع منتجه للمستهلكين من عامة الناس وخاصتهم. ومع مرور الأيام يستمرئ البشر المستهلكون هذه السلع (الثقافية)، ويتلذذون بها، ظناً منهم بانها قدرٌ أزلي. فتغدو مع الزمن مُنتِجة للإنسان ذاته. ولهذا السبب يُقال في بعض السياقات أن الإنسان صنيعة مجتمعه، إنْ كان صالحاً فالمجتمع صالح، وإنْ كان خلاف ذلك، فالمجتمع غير صالح، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات لهذه القاعدة. فقد يوجد في المجتمع الصالح بعض الطالحين، وقد يوجد في المجتمع الطالح بعض الصالحين.

يقول بيكون أن عبادة أوثان القبيلة، بالمعنى الآنف، هي ممارسة يلجأ إليها البشر عند استعمال حواسهم، بشكل غير صحيح، ما يؤدي في أغلب الأحيان إلى نتائج مغلوطة، لأن الحواس مرآة، قد لا تعكس بالضرورة الحقيقة التي نبحث عنها. وقد سادت مثل هذه الوثنية، من وجهة نظر بيكون، في عقول البشر منذ وجودهم على وجه البسيطة.

حول أوثان الكهف، حيث شبه بيكون الفرد الإنسان، (وربما الجماعة)، وكأنه يعيش في كهف مظلم، لا يكاد أن يرى الأشياء إلا بالجهد والتأني والصبر والتؤدة. ومع ذلك فهو لا يراها بشكل واضح. فهذا الفرد يكون أسيراً لما هو موجود ومتوافر في الكهف، ولا يعرف ما هو موجود وكائن خارج الكهف، وإذا اطلع على ما هو موجود خارج الكهف فقد يُصاب بالصدمة. وقد شبه الفيلسوف الجزائري مالك بن نبي، رحمه الله، أوثان الكهف بإنسان محبوس في سجن، لا يرى إلا القضبان والجدران، فهي عالمه، وعالمه الوحيد. ويستطرد، في السياق ذاته، بالقول إن الصورة الجميلة لا توحي إلا بأفكار جميلة، ولا توحي الصورة القبيحة إلا بأفكار قبيحة، وبالتالي لا يوحي الحبس إلا بالظلمة والقسوة والحرمان، وكذلك حبيس ثقافته وتاريخه وأوهامه، فهي لا توحي إلا بما احتوته من كيفيات ومحسوسات. وأشار بيكون، في حديثه عن أوثان الكهف، إلى أن عواطف البشر ومعتقداتهم وآمالهم، وهي ثقافتهم، تؤدي في أغلب الأحيان إلى فهم خاطئ عن حقيقة ما يجري حولهم.

أما أوثان السوق، فقد قصد بها بيكون أن الأفكار والآراء والطروحات المختلفة تشبه البضائع التي تُباع وتُشترى في السوق، حيث تتزاحم أقدام الناس، وتكثر الأصوات، ويكثر الدجالون وبائعو الهوى والهراء والخديعة. فتختلط على المرء الأمور، ولا يعود قادراً على فرز الصحيح من الخطأ، والصدق من الكذب، والأمانة من الخيانة.

وعن أوثان المسرح قال بيكون بأنها تمثل الأفكار القابعة في أذهان الناس، واعتبرها بلغتنا الحديثة وكأنها مؤسسات لا شكلية، تمثل عادات الناس وأعرافهم وتقاليدهم، وقد أصبحت جزءاً من كيانهم، يصعب عليهم الانفلات منها إلا بشق الأنفس.

كان يخطر ببالي، كلما تذكرت رأي بيكون عن أوثان المسرح، ما دأب أحد أساتذتي في الاقتصاد على تكراره بالقول " أهون عليك أن تزيل جبال الهملايا من أن تزيل فكرة خاطئة من ذهن إنسان، أو أن تقنع جاهلاً! "

خلال إحدى زياراتي إلى الصين أذهلتني إحدى العبارات المنحوتة على جدارية حجرية، معلقة على جدار أحد المطارات المحلية، كانت مكتوبة باللغة الصينية القديمة، حسبما قال لي المرافق الصيني ... تقول تلك العبارة، على لسان الفيلسوف الصيني العظيم كونفوشيوس " الجهلُ ليلُ العقل، لكنه ليلٌ من غير أقمار ونجوم " ... وقد تذكرت على الفور وصف أحد الفلاسفة للجاهل، بأنه صانعٌ للمآسي بواسطة الوهم، وأن الجهل والخيانة يشربان من ثدي واحد!!! فلا فرق بين الجاهل والخائن، إلا بالوسيلة ونوع التخطيط. فالجاهل خبيث، لأنه يُخرب بجهله، أما الخائن فهو مُخرب عن سبق تخطيط ودراية، من أجل تحقيق مشروع ٍ ما!

ما هو الجهل؟

هذا سؤال خطير، ويستحق التأمل والإجابة بموضوعية فائقة! لكن قبل الخوض في تفاصيل الجهل وأشكاله، أرى من المهم أن أشير إلى ما تُسمى أشكال الخطأ في العلوم التجريبية، والمشهور منها ثلاثة: 1) خطأ النوع الأول (خطأ ألفا)، وهو احتمال أن يرفض أحدنا الشيء الصحيح، أي رفض الصحيح. 2) خطأ النوع الثاني (خطأ بيتا)، وهو احتمال أن يقبل أحدنا الشيء الخطأ، أي قبول الخطأ، وعادة ما يُطلق عليه بعض العلماء التنبيه (الإنذار) الخطأ (false alarm). 3) خطأ النوع الثالث، وهو التشخيص الصحيح، بوصف خطأ. وتكمن الكارثة إذا ارتكب الفرد الأخطاء الثلاثة بشكل آني، متعمد.

لابد أن نُميز بين شكلين من الجهل، الأول) بسيط وفطري ومحصور في صاحبه، وغير مؤذ، ينشأ من أسباب عديدة، منها مستوى العمر، ونقص في المعلومة، ونقص في الاطلاع، وانخفاض مستوى الفكر، وتدني مستوى الذكاء. ومنه على سبيل المثال جهل الأطفال المعتاد، أو جهل من لم يتلق تعليماً مدرسياً عالياً، أو تعليماً جامعياً لائقاً، أو شحنات تربوية راقية في أسرته. ولا يؤدي هذا الشكل، في معظم الأحيان، إلى إلحاق الأذى بالآخرين، إلا على نطاق ضيق جداً، قابل للمعالجة.

أما الشكل الثاني) فهو مصنوع، ومتعمد، ومنظم ومُخطط له، يقوم على صناعته وترويجه جهابذة في علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد، والإدارة، وتروج له دول عظمى، ومؤسسات قادرة. وهو الشكل الأخطر، تعاني منه كثيرٌ من المجتمعات، وعلى رأسها المجتمعات العربية.

يعمل صانعو الشكل الثاني على تكريس الأمر الواقع، وإغراق البشر المستهدفين في أوثان بيكون. فالمجتمعات العربية، بأسرها مازالت غارقة في عبادة الأوثان الافتراضية: أوثان القبيلة – المجتمع، وأوثان الكهف – المجتمع المنغلق، وأوثان السوق – الدجل السياسي والاقتصادي، والديني، وأوثان المسرح – الماضي، والشرعية المزوّرة.

في تاريخ البشر المُدوّن، لم أقرأ عن أي كيان سياسي – جغرافي، قامت فيه الدولة بصناعة وتشكيل المجتمع، لأن منطق الأمور يوجب قيام المجتمع، وهو الجماعة البشرية المتقاربة، بخلق الدولة وتشكيلها، من أجل أن يضبط المجتمع إيقاعات نفسه، بواسطة سلطة القانون وقوة السلطة التنفيذية، التي يصنعها المجتمع بوسائله الخاصة. ففي نظرية الاقتصاد المؤسسي يضبط المجتمع نفسه بنفسه بواسطة مؤسساته الشكلية، وهي القوانين، ومؤسساته اللاشكلية، وهي عادات المجتمع وأعرافه وتقاليده. أما الدولة العربية الحديثة، بمعناها السياسي، فهي التي خلقت المجتمع الذي تحكمه، وشكلته على النحو الذي يخدم غرضها الاستراتيجي، وخلقت معه هويات فرعية راسخة، هدفها الأول والأخير منها هو السلطة، والسلطة فقط، وترسيخ الهويات الفرعية من أجل خدمة أصحاب القوة التفاوضية، وهم الأغنياء والفئة الحاكمة، إضافة إلى أن الدولة، وإلى حدٍ بعيد، صنعت وشكلت عادات الناس وتقاليدهم السائدة. وفي سبيل ذلك قامت السلطة الحاكمة بالتفرد في ابتكار أساليب غريبة غير حميدة، ومنها تفتيت المجتمع إلى طبقات سياسية – اقتصادية -عرقية – اجتماعية – دينية، والتفرقة بينها على واحد من الأسس الطبقية. ومن جملة ما قامت به كان صناعة رأسمال اجتماعي لها، من أجل خدمتها، لكن رأس المال هذا كان على حساب المجتمع كله، ومن حساب الموارد التي هي أصلاً ملك المجتمع.

لنأخذ الأردن مثالاً بسيطاً عما صنعته المؤسسات الرسمية للدولة في المجتمع، وما آلت إليه الأوضاع، بعد أن ولِجت الدولة برمتها في أوضاع سياسية – اقتصادية – اجتماعية غير مريحة.

في مجال التعليم العالي:

أنشأت الحكومة الأردنية أول مؤسسة للتعليم، وهي الجامعة الأردنية في العاصمة، عمان. وقد اتخذ نمو هذه المؤسسة التعليمية الرائدة مساراً صحيحاً إلى فترة زمنية، غير قصيرة، ثم أنشأت ثاني مؤسسة للتعليم العالي، وكانت جامعة اليرموك، في مدينة إربد، وكان مسار نموها مشابهاً لمسار الجامعة الأولى. وتلا ذلك إنشاء جامعات أخرى في مناطق مختلفة، شرقاً وجنوباً. وقد تزامن ذلك مع وجود بعض كليات المجتمع الرسمية. وفي أثناء ذلك تدخلت السلطة من أجل خلق رأس مال اجتماعي على حساب نوعية التعليم والعدالة الاجتماعية، أدت في نهاية المطاف إلى إحداث تغيرات هيكلية غير محمودة في شكل ومضمون هذه المؤسسات، إلى درجة تركيعها تحت وطأة الديون والتعثر. ومن هذه الإجراءات، على سبيل المثال:

1-مكارم التعليم المجاني على حساب المجتمع، ومكارم أبناء ما يُطلق عليها فئة الجسيم على حساب المجتمع. وهذه القرارات تندرج تحت أوثان القبيلة.
2- تعديل قانون التعليم العالي لمرات متكررة، خلال فترات زمنية قصيرة متلاحقة، من أجل مصلحة أصحاب القوة التفاوضية، وهم أصحاب رأس المال والمتنفذين. وهذا القرار المتكرر يندرج تحت أوثان الكهف.
3- تقييد إدارات الجامعات تحت طائلة العزل، بقرارات تعسفية. وهذا الإجراء يندرج تحت أوثان السوق – الدجل السياسي.
4- تدخل جهات سلطوية في قرارات الجامعات، وحشد الجامعات بما لا تحتاجه من بشر.
5-تدخلها في منع زيادة الرسوم الجامعية لتغطية الكلفة الحقيقية المحاسبية والاجتماعية، وهكذا. وهو ما يندرج تحت أوثان المسرح.

في المجال الاقتصادي:

ارتكبت السلطة التنفيذية أشكال الأخطاء الثلاثة، دفعة واحدة، فقبلت الخطأ، ورفضت الصحيح، وشخصّت الأمور بشكل صحيح، لكنها عالجته بطريقة غير صحيحة.

لقد قضيت ما يزيد على أربعين عاماً متواصلة، وأنا أدْرُس علم الاقتصاد، وأُدرّسه. وخلال هذه العقود لم تمر عليّ في الأدبيات الاقتصادية ما قامت به السلطة التنفيذية، انطلاقاً من ترسخها لـ أوثان المسرح وأوثان السوق – الدجل السياسي:

1-رفع الأسعار في خضم ركود اقتصادي.
2- خفض النفقات وزيادة الضرائب في خضم انحسار اقتصادي.
3- تشويه التعليم العام في ذروة التقدم العلمي والمعرفي، على المستوى العالمي.
4-تشويه التعليم العالي، في ذروة المنافسة بين الدول على الصدارة في هذا المجال الحيوي. وهو ذات القطاع الذي كان مُصدّراً لرأس المال البشري، ورافداً للاقتصاد الوطني.

في الشأن السياسي:

سأترك لكم النظر في وليس إلى الأمور، بالعودة إلى نظريتي في علم التجهيل.
 
تابعو الأردن 24 على google news