لا ... الدستور ليس مقدساً
لا نتفق مع محاولات اضفاء القداسة أو شبه القداسة على الدستور الأردني. فهذا الدستور تمت صياغته الاردنية بأوائل النصف الثاني من القرن الماضي ..وبكفاءة تعكس كفاءة من قاموا بتلك الصياغة آنذاك ، فهي التي كانت متوفرة حينها وكذلك كانت حاجات الشعب كطرف في هذا العقد الاجتماعي، وقد غطيت بشكل معقول بما يناسب مجمل الظروف التي كانت قائمة والاستحقاقات التي استوجبتها حاجة الدولة الى نوع ما من تنظيم العلاقة بين السلطة والشعب،وبمستوى من الجودة ليس من غير المتوقع أن يكون معقولا نسبياً، وليس مثالياً بالمطلق، ولأن الدستور يعكس ارادة الشعب، وحاجته الماسة الى النظام والتنظيم، حماية للمصالح ورعاية للحقوق والواجبات، وهذه أمور متغيرة بطبيعتها تحت ضغط عوامل تغيير محلية ،وخارجية ، بل إن المفردات البشرية ذاتها (الأفراد) مفردات متغيرة بطبيعتها هي الأخرى، ولو لعوامل طبيعية احتكاماً لسنة الحياة؛ لذا صار من غير الطبيعي ، وربما خروج على مقتضيات العقل والمنطق أن يحكم البعض على الدستور بالجمود. فذلك يعني أن الحياة بمختلف عناصرها وانظمتها، وكذلك الحاجات والمصالح ، بل ومستويات الوعي الفردي والجماعي, كلها تتغير من حول الدستور، بينما يظل الدستور في مناى عن كل ذلك، بذريعة أو بأخرى، أو بمقاربات تضليلية مثل التذرع بدساتير بعض الدول العظمى التي حافظت على ثباتها فترة طويلة مثلاً، ففي ذلك تجاهل لحقيقة الفارق الثقافي وفارق الوعي القانوني بين من صاغوا الدساتير هناك ، ومن صاغوها هنا.
لا جدال حول الإمكانات الواسعة لقدرات النصوص اللفظية التي بنى منها الدستور الأردني، فهي تغطي مجمل مفاصل حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية .... الخ،تغطية لا شك انها راقية للوهلة الاولى. لكن بالتدقيق نجد ان الغالبية العظمى من مواده تبقي المجال واسعاً للانحراف بعيداُ عن مرامي الدستور إما عبر القوانين او الانظمة او التعليمات. فالدستور يظل عاماً ، وله ميزة السمو على كل القوانين ، لكن هذه القوانين الخاصة يمكن ان تصاغ بطريقة تفرغ المادة الدستورية من غاياتها، دون أن تصطدم معها بالضرورة أو تخالفها، وبأساليب لا يمكن معها حتى للمجلس العالي لتفسير الدستور أو للمحكمة الدستورية أن يحول دون ذلك ، بل إن النص الدستوري نفسه قد يجيز الانحراف عن مراميه وأهدافه وللتدليل على ذلك سوف أكتفي بمثالين فقط :
المثال الأول : لنأخذ مثلاً المادة (29) من الدستور . وتنص على ما يلي :"يقسم الملك إثر تبوئه العرش أمام مجلس الأمة الذي يلتئم برئاسه رئيس مجلس الأعيان،أن يحافظ على الدستور وان يخلص للأمة " . يلاحظ هنا :ان النص يلزم الملك بان يقسم على ان يحافظ على الدستور وان يخلص للأمة، دون ان يحدد أي دستور، وأية أمة. والسؤال : لنفرض أن الملك لم (يقسم ) لسبب أو لاخر، هل يظل محتفظاً بصفة (الملك) أم لا؟ إذا نعم، لماذا القسم وإذا لا؛ فلماذا سماه الدستور ملكاً قبل أن يقسم ليصبح ملكاً؟ لماذا لا يقول النص يقسم من ينتقل اليه المُلك بالوراثة ... بدلاً من مصطلح الملك إذن؟؟؟ فأهمية القسم على العموم وبأي مجال ، تأتي من الزاميته لمن يقسم،الزامية توجب المساءلة القانونية له اذا ما حنث ...اليس كذلك؟والجميع يعرف أن الدستور الأردني قد (صان) الملك من أية مساءلة قانونية عن أية أفعال قد يقوم بها مهما كانت نتائجها ..... فهل اذا حنث بالقسم صارت مساءلته ممكنة ؟؟!!!! الجواب معروف!! ...إذن لماذا التمسك بهذه الشكلية غير الملزمة؟؟ وما فائدتها العملية من وجهة النظر القانونية البحتة ؟؟ هذه واحدة..
والأخرى: يلزم النص الملك أن يحافظ على الدستور ...! فأي دستور المقصودهنا ؟؟؟ لقد جاءت عامة ، كما ان لفظ (يحافظ) قد يعني ضمن ما قد يعنيه مثلاً ،ان يعتني به جيداً في مكتبته.... اليست هذه محافظة على الدستور؟؟! ألم يكن من الأفضل لو استبدلت كلمة (يحافظ) بكلمة (لا يخالف) ، بل وفكرت أن أقترح كلمة (يحترم) لكني تراجعت أمام إحتمال ان الانسان قد يحترم شيء ويخالفه في الوقت نفسه!! .... فالرجل قد يحترم زوجته لكنه قد يخالفها احياناً أليس كذلك؟؟؟ الأولى: لشرفية الدستور وسموه وقيمته ان (لا يُخالَف) أولاً لا ان (يحافظ عليه ) أو (يحترم ) . أليس كذلك؟؟ ثم أن النص لا يوضح يقسم بماذا ؟؟؟ بالله أم بماذا؟؟ وثالثة: يقول النص ( وان يخلص للأمة ) . والسؤال أية أمة تلك التي يطلب فيها من صاغوا الدستور الأردني: من الملك الأردني أن يُخلص لها ؟؟ أليس الأولى أن يقسم الملك على أن يخلص للشعب الاردني؟؟؟؟ بدل هذه الامة غير المحددة او المعروفة. ثم لاحظوا : المادة الأولى من الدستور ماذا تقول ؟؟ الشعب الأردني جزء من الامة العربية؛ فهل المطلوب من ملك الاردن أن يخلص للأمة العربية ام للأمة الاسلامية ، ام للامة حيثما وجدت على سطح هذا الكوكب؟؟؟ثم ماذا لو اخلص الملك مثلاً للأمة العربية وقضاياها العامة ... ولم يُعِر الشعب الاردني أي اهتمام ، هل سيقلل ذلك من دستوريته؟؟؟الجواب : لا : سيظل ملكاً دستورياً مع ذلك مئة بالمئة. قد يقول قائل : حتى لو عدلنا الكلمات واستخدمنا مفاهيم ومصطلحات دقيقة الدلالة .... فذلك قد لا يغير شيء !!! فإذا كان الهدف هو الزام الملك (بعدم مخالفة) الدستور الأردني ، وأن (يخلص للشعب الأردني) أولاً دون غيره فليس ذلك ضمن طاقات دستورنا بنصوصه الحالية.... التي لا تلزم الملك بأن يكون مسؤولاً سواء (خالف) الدستور او لم يخالفه (أخلص ) سواء للشعب الأردني أو (للأمة ) غير المحددة هذه ؟؟ ففي المادة (30) من الدستور حرية مطلقة للمك (لأن يتقيد أو يخالف) ولا يجوز مساءلته أو الزامه بشيء ، فما المنطق في أن يطلب من الملك ان( يحافظ على الدستور) في مادة وفي مادة اخرى نصونه من أية مساءلة عن أية مخالفة؟ أليس في ذلك تناقض فاضح؟ وربما لأجل ذلك مال القوم الى هذه الصياغة العامة لبعض المواد الحساسة ذات العلاقة بالملك ، فاكتفو بالنص (أن يحافظ على الدستور) (وأن يخدم الأمة) ، وربما قصدوا بذلك الدستور الأردني. والشعب الأردني ؛ على أي حال أنا لا اعرف ولا أجزم ماذا قصدوا، فالنص من وجهة نظري مبهم وشديد الغموض .
مثال آخر : دعنا ننظر في المادة (43) من الدستور والتي تنص على ما يلي: ((على رئيس الوزراء والوزراء قبل مباشرتهم اعمالهم أن يقسموا أمام الملك اليمين التالية : "أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للملك، وأن أحافظ على الدستور، وان أخدم الأمة واقوم بالواجبات الموكولة إلي بأمانة " )).
نلاحظ ان النص يلزم كل من الرئيس والوزير على أن يحافظ على الدستور، وكلمة يحافظ أيضاً – وكما سبق أن وضحنا – لا تحدد وجه المحافظة ولا كيفيتها....
إذن : بإمكان رئيس الوزراء وكل وزير أن يتصرف مع الدستور حسب ما يفهم من كلمة (يحافظ) فإن اقتنى منه عدة نسخ وجلدها جيداً، بامكانه بعد ذلك أن يزعم(وهو محق)أنه حافظ بذلك على الدستور . ألم يكن من الأولى أن ينص القسم على (عدم مخالفة ) الدستور وليس المحافظة على الدستورالتي قد تفهم على عدة أوجه .
كما يلزمه بأن يخدم الأمة . أليس من الأولى أن ( يخدم الشعب الاردني) بدلاً من الأمة غير المحددة المعالم والحدود؟ فالرئيس أو الوزير حسب نص الدستور بإمكانه أن يركز على قضايا الأمة العربية مثلاً أو الأمة الاسلامية ولو على حساب الشعب الاردني ، ومع ذلك يظل بسلوكه هذا دستورياً لا تجيز مساءلته قانونياً ... وعلى الأقل بإمكانه أن يدافع عن نفسه مستنداً الى الدستور .... ولعل هذا ما يفسر المساحة الأكبر من الاهتمام الرسمي الاردني التي تحظى بها قضايا الاقليم وقضايا الشعوب العربية الأخرى، بل إن بعض العرب يقولون أن بعض وزراء الأردن يعملون وكأنهم وكلاء لنا في الأردن .... ومع هذا فسلوكهم يظل دستورياً . لأن الدستور لا يلزمهم صراحة وبشكل محدد بخدمة الشعب الاردني ... وكثيراً ما فكرت ان أكتب ناقداً لتجاهل الحكومات لقضايا أردنية بسبب اهتمامهم المبالغ فيه بقضايا الآخرين ، لكنني تراجعت لعلمي أن الدستور يجيز لهم ذلك وسلوكهم قانوني ، مع أنه قد لا يكون مفيداً للأردن وربما ضار.
إن عمومية النصوص القانونية بهذا الشكل يبقى المجال واسعاً أمام الحكومات الأردنية لأن تتجاهل الكثير من مصالح و قضايا الشعب الأردني .... وتظل مع ذلك حكومات متقيدة بالدستور ، ثم لماذا كل هذه الحساسية ازاء أي حديث يتطرق الى التعديل الحقيقي للدستور وكأنه قرآن كريم. الدستور الأردني أيها الاردنيون أصوله قد وجدت قبل مدة زمنية تناهز الربع قرن ،في الدستور البلجيكي بالتحديد .... فالعثمانيون يا سادة اخذوا من دستور بلجيكا آنذاك الكثير من نصوصه ومواده المختلفة، ونحن أخذنا من الدستور العثماني الكثير مما تضمّنه دستورنا الذي يحاول البعض أن يقدسه . وجه الغرابة أن بلجيكا (المصدر) أو بلد (المنشأ) لم تكن اكثر تقدماً من الامبراطورية العثمانية عندما استعارت الأخيرة منها الكثير مما في دستورها وكسابقة أولى في التاريخ أن يأخذ أو يقترض الاكثر تقدماً دستوره من دولة أقل منه تقدماً ... يبدو أن الأتراك كانوا بحاجة الى من يؤسس لهم ويساعد على إمكانية الاستبداد فلجأوا الى من يعرفون بذلك أكثر ، فأخذوا منهم وأخذنا نحن من الأتراك . أما بلجيكا الحديثة نفسها فلم تعد لها أدنى صلة بدستورها العتيد (المنبع لدستورنا) الذي يصر الارادنة المستفيدون منه أن يظل (مقدساً) .
من جهتي أرى أن كل مواد الدستور دون استثناء فيها عيوب ولا بأس من تعديلها روحاً وصياغة ، وأتحدى أي خبير قانوني ان يقنعني ان هناك ولو مادة واحدة بالدستور الأردني خالية من العيوب التي تستوجب تغييرها .
على أي حال : ليست قضيتنا هنا جزيئات تفصيلية . فالقضية هي أن مواد الدستور وصياغة هذه المواد ليست فوق النقد وكاملة مكملة ، بل فيها من أوجه القصور الكثير.... فإذا اتفقنا على ذلك صارت المطالبة بتغيير الدستور أو بإعادة النظر بكل مواده مطالبة لا تخلو من المنطق ولها الكثير من المسوغات، فلماذا هذا (التراجف) وإخافة الناس من الاقتراب من الدستور فأيهما أولى أن يُؤخذ بالاعتبار ؛ القداسة أو المحرمات (Taboos) التي حيثما وُجدت انبتت الاستبداد والجمود؛ أم حاجات الشعب ومصالحه وكفاءاته المتجددة باستمرار ؟!