الإخوان المسلمون وطبقة السلطة
ما يجري على المسرح السياسي في المجتمع الأردني , هو شكل من أشكال التدافع الاجتماعي أو المنافسة التي تهدف إلى الإصلاح والتغيير وهذا مرفوض رسمياً , قد يبدوا للمراقب الخارجي وكأنها منافسة تحتدم بين ثلاث قوى رئيسية : الأولى وهي القوة المتمثلة بطبقة السلطة , وتعبر عنها الحكومة , والثانية : قوى سياسية لا تؤمن باستقلال المجال السياسي عن الدين , بل ولا تؤمن باستقلال مجالات الحياة كلها عن الدين , وأهمها جبهة العمل الإسلامي , والثالثة قوى سياسية متعددة الأطياف تؤمن باستقلال المجال السياسي عن الدين , من جهتي أخالف هذا التصور تماماً , ولا أرى على المسرح السياسي سوى قوة واحدة هي (طبقة السلطة متمثلة بالحكومة) . وهي في حالة تنافس مع ذاتها ولذّاتها من أجل الإستمرار في إعادة انتاج ذاتها . أما القوتان الثانية والثالثة فأراهما أدوات للقوة الأولى لا أكثر -أو إنها تتعامل معهما على إنهما كذلك . ذلك أن القوة الثانية تحديداً (وهي الأهم ظاهرياً والأكثر تنظيماً) إنما هي في أساسها من مخرجات سياسات طبقة السلطة منذ أوائل الخمسينات وقبلها بقليل , عندما زرعت واحيطت بالرعاية والاهتمام من قبل طبقة السلطة حتى اشتد عودها . وذلك تحت ضغط الظروف التي نشأت بظلها النظم الرسمية , وتحسباً لاحتمالات التغيير مستقبلاً , أما كيف بدأت القصة فذلك كما يلي : في أعقاب الاستقلال قفزت الى مسيرة الحكم في الدول العربية نخب عربية تتشكل منها الانظمة الدينية الرسمية بحكم الظروف وليس بإرادة الشعوب , فكان عليها أن تحصن حالها ضد احتمالية التغيير الذي قد يأتي بفعل قوى خارجية (وهي الأهم) أو قوى داخلية قد تحظى بقبول داخلي وخارجي كبديل للنظم السياسية , كان التوجه نحو إفساح المجال لخلق معارضة ما للنظام السياسي القائم . ففي ذلك نقطة لصالح تلك الأنظمة ومظهر ديمقراطي مطلوب عالمياً .
ولكن بشرط أن لا تكون تلك المعارضة (مرغوبة) والأفضل أن تكون مكروهة من قبل الخارج , وأن تكون كذلك بنظر الداخل . فكانت الجماعات الاسلامية والاحزاب الاسلامية هي الوصفة المطابقة للمطلوب . فعملت الانظمة الرسمية بشتى الطرق ووفرت لهذه الجماعات شتى الوسائل والتسهيلات وهوامش الحركة اللازمة لتقويتها ومأسستها . كي تصل الى مستوى تصنف على اساس بأنها القوة المنظمة الوحيدة المهيأة لاستلام الحكم إذا ما فكر الخارج أو الداخل بتغيير نظم الحكم القائمة . وعندها سيضطر الى الدخول في مفاضلة بين هذه النظم وتلك القوى والجماعات الاسلامية , فتفوز نظم الحكم القائمة لأنها ستظهر و كأنها (اهون الشرّين) ؛ لا لشيء إلا لأن الخارج (المؤثر جداً) لا يميل بطبيعته الى انظمة الحكم الدينية , كما أن الداخل قد لايميلون الى الانتقال من حالة استبعاد أو استبداد سياسي , الى حالة استبعاد أواستبداد ديني .
هكذا كانت الحسبة ... وهكذا كانت بداية هذه الجماعات ولهذه تلقت من طبقة السلطة كل هذا الدعم من الاساس .
لم تكتف طبقة السلطة بزرع ورعاية هذه القوى , بل عملت على أن تكون هذه الجماعات سند ورديف للحكومة في الداخل , تسد بعض الثغرات التي قد تنشأ عن اهمال طبقة السلطة وتقاعسها و بخاصة في مجال دورها الرعوي التقليدي , وفعلاً عندما حان وقت اضطرت فيه طبقة السلطة أن تتخلى عن الطبقات الفقيرة تحت ضغط العولمة وما تفرضه من خصخصة وتماهي مع النظام الاقتصادي العالمي , انتشر الفقر وتزايدت نسبته وشدّته , وزادت البطالة ؛ فدخلت الجماعات الاسلامية لإغلاق هذه الثغرة فانتشرت مؤسسات العون , وبيوت الزكاة والجمعيات الخيرية والمؤسسات العاملة في العون من القطاعات الخدمية من صحة وتعليم ومساعدات , بل وتسهيلات لزواج الشباب , على افتراض أن ذلك قد يخفف عن الناس قسوة ضنك العيش , ويمتص شيئاً من غضبهم ونقمتهم على طبقة السلطة (الحكومة) , إذا ما وجدوا من يساعدهم نيابة عنها وقد قامت الجماعات بهذا الدور , وقدمت لهم المساعدة . لم تكن نتائج أعمال هذه الجماعات تنصرف في اتجاه واحد فقط وهو مصلحة ( طبقة السلطة أو الحكومة) بل كانت تتصرف لمصلحتها ايضاً , إذا زادت من شعبيتها لدى الناس وزادت من خبراتها في مجال إدارة الخدمات , الى جانب خبراتها في التعبئة والحشد . وكانت الفئات الشعبية تعكس امتنانها لهذه الجماعات بكل مناسبات الانتخابات المحدودة , على مستوى مؤسسات المجتمع المدني , فالتأمين الشعبي لها كاسح والنجاح لها مضمون , والحكومة جداً مسرورة والخطة محكمة بالاتجاه الصحيح .
لاشيء يسر طبقة السلطة أو الحكومة أكثر من رؤيتها لهذه الجماعات الدينية وهي تحقق الانتصار تلو الانتصار في انتخابات مؤسسات المجتمع المدني ليس في حقيقتها بذات قيمة بنظر السلطة بذاتها , لكن لها قيمة كبرى بدلالاتها كمؤشر واضح الدلالة عن مصير قوى الشعب الأخرى إذا ما فكرت في أن تطالب بديمقراطية وبانتخابات نزيهة , حيث لا مناص لها آنذاك من أن تجد نفسها في مواجهة هذه القوة التي لا تقهر لهذه الجماعات , الأمر الذي قد يدفعها الى أن تفكر ملياً قبل الإقدام على المطالبة بذلك . بل و لا تحتاج إلا لقليل من الذكاء حتى تدرك عبثية المطالبة بالتشاركية أو الديمقراطية , وحقوق الانسان , وغيرها من هذه (الترهات بنظر السلطة) طالما أن كل هذه الانجازات لو تحققت و لو بالدماء ستكون حتماً لصالح هذه الجماعات التي صارت جداً منظمة , فلا يعود لدي تلك القوة أي حماس إذن لبذل أي مجهود نضالي منظم أو شعبي عفوي , إذا صار معروف سلفاً أن نتيجته أو مردوده السياسي لن يكون بأي حالة لصالحها هي بل لصالح غيرها . فيميل الناس الى التقاعس والسكوت والانكسار (وهذا ما نطلق عليه في الأردن مصطلح (الاستقرار) مع أنه استقرار أمني وليس اجتماعي . بهذا ينتهي الفصل الأول من البرنامج الاستخدامي أو الاداري .
أما الفصل الثاني : فله مقدمات تبدأ : إذا ما لاحظت طبقة السلطة أن هذه الجماعات الاسلامية قد بدأت تعي مصالحها وتدرك مدى قوتها , وبدأت باستغلال المزايا والتسهيلات التي وفرتها لها طبقة السلطة (وهذا أمر طبيعي في عالم السياسة) , لحساباتها الخاصة ومصالحها الخاصة لتتجاوز بذلك سقف كينونتها (كأداة) ؛ تبدأ السلطة بتنفيذ هذا الفصل وفيه تبدأ طبقة السلطة باستثمار حالة الاحتقان لدى القوى والاحزاب الشعبية الأخرى التي تكونت لديها جراء احساسها بالتفوق الحاسم للجماعات الاسلامية النابع في أصله من تحيز السلطة لها من الأساس , وذلك بأن تزيد حدة هذا الاحتقان لدى تلك القوى الشعبية بل وتزيد من حدة الاستفزاز بل والكره (عاطفة ملازمة للمنافسة في المجتمعات المتخلفة) الموجه منها نحو الجماعات الاسلامية . أما وسيلة ذلك فهي أن تقوم الحكومة بالانحياز الكامل والعلني هذه المرة الى جانب الجماعات الاسلامية والاحتفاظ بهذه الحالة مدة زمنية كافية يرتفع فيها الى أعلى مدى منسوب مشاعر الكرة والاستفزاز لدى القوى والاحزاب الأخرى تحت ضغوطات عادة مدروسة لا بد من نشرها توحي وكأن هناك مؤازرة أو تحالف بيد الحكومة والجماعات الاسلامية , فتصير في حالة المؤهل لأن تتحالف مع أية جهة للحد من غلواء وغطرسة الجماعات الاسلامية التي زادها انحياز السلطة العلني لها غطرسة على غطرستها هذا من جهة , ومن جهة أخرى , استجابة غريزية لعاطفة حتمية التشكل قوامها الشعور بأن هذه الجماعات ليست هي الأردن كله ولو صفّت معها الحكومة .
عندما تصل الأمور عند هذا النقطة تكون الفرصة قد حانت للحكومة لأن تترك خندق الجماعات الاسلامية لتقف في خندق القوى والاحزاب المقابلة لها التي صارت معبئة ضدها تماماً .. فيكون وجود الحكومة معها مرحب به , ولتفعل في القوانين الانتخابية ما تفعله , لأنه لا يعود المهم عندها أن تنجح أو أن يخرج قانون مثالي , بل أن يتحجم دور الجماعات الاسلامية و بأي جهد تقوم به الحكومة أو غيرها .
وعندما تصل اللعبة إلى هذه النقطة تكون اللحظة المناسبة لأن تظهر الحكومة انحيازها العلني للقوى والاحزاب الأخرى وأن تصدر قانوناً للانتخاب ليعكس رغبتها في تحجيم الجماعات الاسلامية فلا يحصلون على أكثر مما يستحقون بنظرها وكأنها بذلك تنحاز الى من يقولون بأن هذه الجماعات ليست كل الأردن (وهم القوى والجماعات المنافسة) . فتطرحه وكأنها منحازة في ذلك للعدالة , ضامنة سلفاً أن له انصار كثيرون من كل القوى والاحزاب التي كانت قبل استفزازها وتعبئتها ضد الجماعات الاسلامية ؛ مؤهلة أن تتوحد مع هذه الجماعات تحت مظلة المعارضة الموحدة , حيث يصبح بإمكانهم عندها أن يصروا على تحديد ملامح مثالية لقانون انتخابي مثالي . وهذا ما ترفضه الحكومة من الأساس .
في النتيجة فازت الحكومة واخرجت القانون كما تريد . لقد فعلت الحكومة ذلك وهي تحظى بدعم كثير من القوى خارج الجماعات الاسلامية .
فصار حالها حال الدولة الكبرى التي تأتي لضرب شعب ... لكنها تفضل أن تأتي كنصير يتمتع بقبول ورضى ودعوة من بعض هذا الشعب ... إذن هي منهجية العمل الأمريكية وليست عبقرية عربية , أليس كذلك ؟
عند هذه النقطة تتحدد ملامح الفرص التي صارت متاحة أمام القوة اللاعبة الوحيدة (الحكومة) وأمام كل أداة من أدواتها . أن تطرح القانون الذي تريد مع تعديلات لا يكون لها تأثير حقيقي على بنية طبقة السلطة وجوداً ومحاصصة – بذلك تكون قد نجحت في تحجيم الجماعات الاسلامية وقدراتها على استغلال ما قدمته السلطة لها , لمصالحها الخاصة , كما نجحت في أنها أوجدت عقبة نفسية تحول دون توحد كل قوى الشعب الدينية وغير الدينية كفريق واحد في مواجهتها , تتمثل بما يمكن أن نسميه ( بقوة تناقض العواطف) , بدليل أن الكثير من القوى والجماعات السياسية الأخرى غير الاسلامية التي لا يأتي لها قانون الانتخابات الجديد بأي فرص , ومع هذا فهي راضية , فقط لأنه يحجم الجماعات الاسلامية . اما هي فلا لها إلا أن تعتمد على قدراتها التقليدية في الاستفادة من عوامل الفرز و التحشيد والتعبئة التقليدية , لكي تحظى بنصيب ما من مقاعد البرلمان . وهذه عوامل ستظل فاعلة وعاملة في هذا المجال خلال المرحلة المقبلة بل وعلى المدى المتوسط في أسوأ الحالات رغم الحراك الشعبي .
أما قوتها الحزبية الهشة فهي أقرب ما تكون إلى المهزلة والعبثية إذا ما افترضنا وجود التنافس الانتخابي الحقيقي والحر , مع أننا نشك بذلك .
أما الجماعات الاسلامية فخياراتها قد تحددت : إما بالمقاطعة , وهذا غير وارد تحت ضغط الظروف المحلية والاقليمية المحيطة . بل لم تكن المشاركة ضرورية كما هي اليوم وإلا فربما خسرت ظروفاً إذا ما زالت ؛ ليس من السهل أن نفترض عودتها . وإما المشاركة والرضى بالسقف الذي تكاد أن تتصور حدوده ومداه . فالحكومة صارت في خندق الأكثرية و ليس خندق الجماعات الاسلامية فحسب . وسوف تكون أكثرية في البرلمان .
أما الجماعات الاسلامية فربما ترضى لسببين : الأول : أن سقف مقاعدها المعتادة لابد أن يزيد قليلاً ولو من باب التغطية وهذا جل ما تسعى اليه في الواقع : فهي دربت كأداة صارت تتقن فنون المعارضة , والى جانبها فنون المشاركة المتواضعة أي القبول بالتواضع , منصب هنا , ومنصب هناك , وسقف مشاركة برلمانية لا تتجاوز في الغالب 20% من مقاعد البرلمان .
وعليه صار من غير المستبعد الافتراض بأن الجماعات الاسلامية في المجتمع الأردني تحديداً , ربما تتطلع إلى مزيد من المشاركة برفع سقف نسبة المشاركة في البرلمان , لكنها ربما لا تميل بقناعة راسخة إلى أن تحكم لتصبح هدفاً للمعارضة لا صانعة لها .
فكل الامتيازات والاوضاع المريحة قد تحققت لها عبر المعارضة عندما كانت في طليعة المنتقدين للفساد والفاسدين , أما الحكم وتحمل المسؤولية فيضعها في موقف من توجه له الانتقادات عن أي فشل , فإن حدث ذلك (وسوف يحدث لأن التغير المتوقع في بنية طبقة السلطة لن يكون جذرياً في المدى المتوسط على الأقل) , فقد يعصف بكل ما كانت قد حققته من نجاحات شعبية وامتيازات عبر تاريخها المعارض .