التاريخ السري للبنك الدولي
د. احمد نوفل
جو 24 : في سلسلة حلقات "الحابل والنابل"، والسلسلة الفرعية منها: الحبل السِّري، نتكلم في هذه الحلقة عن التاريخ السري للبنك الدولي، وهو عنوان كتاب، استعرنا منه عنوان الحلقة، ولما رأيته حافلاً مثيراً مهماً، ليس بالسهل أن يكون متاحاً لأغلب جمهورنا، رأيت أن ألخّصه في هذه الحلقة، وحلقات تالية.
والكتاب اثنا عشر فصلاً، حافلة بالحقائق والمعلومات، وأمّا صفحاته فحوالي ثلاثمئة وخمسين صفحة.
ومثل هذه الكتب والأبحاث مهمة أصلاً وتزداد أهميتها في زمن العولمة، حيث أنّ هذه المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد (أو النكد) الدولي، والأمم المتحدة والقانون الدولي والقوات الدولية، وما شابه وشاكل، هذه كلها أذرع العولمة. في هذه الحقبة تمددت هذه المؤسسات والشركات العابرة للقارات وتعملقت في الوقت الذي تقلصت فيه الدولة وتراجع دورها الاقتصادي، وتراجع القطاع العام إلى حد الإمّحاء الكامل، حتى تنفرد المؤسسات الدولية باقتصادات الدول وطحن المواطنين في ظل تهميش دور الدول.
هم يضعون القوانين وهم يفرضون "الشركاء الإستراتيجيين" على "الدول الفاشلة"، كل ذلك ليزداد الغني غنى ويزداد الفقير فقراً. والوصفة السحرية الأولى للبنك الدولي هي رفع الدعم عن السلع الأساسية لتتمكن الدولة من جمع قرشين وسداد الدين، وتكون بهذا قد بذرت بذور الثورة من حيث لا تدري.
"التاريخ السري للبنك الدولي" المؤلف: زكي العايدي. الترجمة: سينا للنشر. مراجعة: ريشا جاكمون، تحرير: علي حامد، نشر: سينا للنشر، والكتاب مؤلف بالفرنسية ومطبوع بها سنة 89 الطبعة الأولى بالعربية سنة 92.
والمؤلف من مواليد وجدة بالمغرب، ودكتوراة علوم سياسية من باريس، وهو أستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس واستشاري في العلاقات الدولية، ويكتب لصحيفة ليبراسيون اليومية.
وقدّم للكتاب الدكتور رمزي زكي، أستاذ في الاقتصاد وله ثمانية عشر كتاباً، وحاصل على عدة جوائز. وممّا قال: "هذا كتاب مثير للفكر، غني بالمعلومات، زاخر بالحقائق المجهولة. وغريب في رسالته التي يود أن يبعث بها للقارئ، فهو يتحدث عن أكبر قوة مالية عالمية مؤثرة في عصرنا الراهن، وهو البنك الدولي، تلك القوة التي تطورت على نحو مذهل وجعلت البنك يتحكم في خيارات شعوب دول العالم الثالث في مجال تنميتها الاقتصادية، وطريقها المستقل للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، بل إنّ هذه القوة، كما يصفها مؤلف الكتاب، قد جعلت البنك "يضغط على سيادة الدول"، ويصل إلى الحد الذي يضع فيه اقتصاداتها "تحت الوصاية" ويفرض "رقابة على المصروفات العامة"، بل على "حق الجلوس في مجلس الوزراء"، على حد تعبير المؤلف.
والإشارات الضوئية التي ستلمحها بصيرة القارئ وهو يطالع هذا الكتاب المثير تتجه لكشف النقاب عن كيفية تطور البنك إلى هذا الحد الذي جعله يتمتع بهذه القوة المؤثرة في دول العالم الثالث، رغم أنّ المبالغ التي يقرضها لهذه الدول تمثّل نسباً تافهة من إجمالي الاستثمارات التي تحققها، وإيضاح آليات هذه القوة وخباياها ومرتكزاتها الفكرية والنظرية.
إنّه حينما أنشئ البنك ضمن ترتيبات مؤتمر "بريتون وودز" سنة 46، كان مجرد مؤسسة صغيرة، بالمقارنة بالهيئة الضخمة التي يمثّلها اليوم. لم يكن أحد يتخيّل أن تتحول قوة البنك إلى هذا القدر من الضخامة إلى الحد الذي دفع بالاقتصادي المعروف هاري جونسون لأن يصفها بأنّها أصبحت مؤسسة رئيسية لحكومة عالمية، فلم تكن تلك القوة ظاهرة أو ممكنة آنذاك، وكان باستطاعة الدول النامية حديثة الاستقلال في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تبنّت برامج طموحة للتصنيع والتنمية ورفعت شعارات الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وزيادة مستوى المعيشة (مصر نموذجاً)، كان باستطاعتها أن تبتعد عن التعامل مع البنك، في فترة الخمسينيات والستينيات تجنباً لشروطه وتوجهاته التي كانت لا ترضى عن أيّ سياسة وطنية مستقلة تميل لإعطاء القطاع العام قوة دافعة وقائدة للتنمية وتعتمد على التخطيط الاقتصادي كوسيلة لإدارة وتوجيه النشاط الاقتصادي وتطمح في تحقيق هذا القدر أو ذاك من اعتبارات العدالة الاجتماعية. (العكس هو الذي حصل أنّ القطاع العام جرى تفكيكه بتراب الفلوس وجرى انسحاب إستراتيجي للدول العظيمة من حياة الناس (إلاّ..) لصالح تغوُّل رأس المال والشركات العابرة للقارات والقوميات، بعدما جرى إفشال متعمد للقطاع العام).
لقد أنشئ البنك الدولي للتعمير والتنمية في ضوء ميثاق "بريتون وودز"، وبناء على المقترحات الأمريكية، لكي يستكمل مهام صندوق النقد الدولي التي انحصرت أساساً في قضايا الأجل القصير (التغلب على مشكلات عجز موازين المدفوعات وتنظيم أحوال سعر الصرف والسيولة الدولية). أمّا مهام البنك فتتعلق بالآجال الطويلة، حيث كان الغرض من إنشائه هو تقديم القروض طويلة الأمد لتشجيع حركة الاستثمارات الدولية للدول الأعضاء والتي تساعدها في عمليات التعمير والبناء لاقتصاداتها المدمرة أو المخربة، وحفز وتشجيع الإمكانات والموارد الإنتاجية في البلاد النامية. كما جاء ضمن أهداف البنك تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة عن طريق الضمانات والمساهمة في القروض والاستثمارات الأخرى التي يقوم بها القطاع الخاص بالشروط المناسبة، والعمل على تحقيق النمو المتوازن طويل الأجل للتجارة الدولية.
ثم تدّعمت قوة البنك بإنشاء مؤسستين تابعتين له، هما رابطة التنمية الدولية ومؤسسة التمويل الدولية، بناء على مقترحات لجنة روكفلر في الخمسينيات من هذا القرن، وأثناء رئاسة "أيوجين بلاك" للبنك.
ومنذ لحظة ميلاد البنك وحتى الآن، استحوذت البلاد الرأسمالية الصناعية بالسيطرة على إدارته وتحديد سياساته وتخصيص موارده، وذلك من خلال ما استحوذت عليه من أغلبية في رأسماله، وبالتالي على الشطر الأعظم من القوة التصويتية في البنك. ورغم أنّ رأسماله المدفوع لا يتجاوز 20 بالمئة من رأسماله المرخص، إلاّ أنّ قوته المالية قد تعاظمت على نحو مذهل بسبب قدرته الهائلة على الاتصال بأسواق رأس المال العالمية وتجميع ما يحتاجه منها من موارد من خلال سنداته التي يطرحها في هذه الأسواق.
ونظرة سريعة على تاريخه تشير إلى أنّ البنك في التحليل الأخير هو مجمع عالمي لرؤوس الأموال الفائضة في الدول الرأسمالية، والتي تبحث من خلال البنك عن فرص للربح المضمون، ذلك أنّه في كثير من الأحيان تفضّل الدول الرأسمالية الكبرى إقراض أموالها الفائضة للبنك بدلاً من إعطائها في شكل قروض ثنائية حكومية للدول التي تحتاج للاقتراض، حيث أنّ البنك باعتباره وكيلاً للمستثمرين يتمتع بسلطات قوية ويحرص على أن تكون مشروعاته التي يموّلها مضمونة، كما أنّه يدقق بشكل حازم في قدرة المقترضين على السداد وفي تقييم المخاطر التي يتعرّض لها اقتصادياً بشكل محكم، وله في ذاك جيش جرار من خبرائه الماليين والتكنوقراط الاقتصاديين. ومن ناحية أخرى، تفضّل الحكومات الرأسمالية الإقراض من خلال البنك، لأن ذلك يجنّبها مشكلات الإدارة المتزايدة والتعقيدات المختلفة التي عادة ما تصاحب القروض الحكومية الثنائية. أضف إلى ذلك أنّ البنك يتشدد تشدداً صارماً في شروطه التي يمليها على البلد المقترض وفي ضرورة انتظام الدولة المدنية في دفع فوائد الدين وأقساطه في مواعيدها المحددة والمجدولة سلفاً، وهو يرفض رفضاً قاطعاً إعادة جدولة ديونه في حالة إعسار المدين عن السداد. ونتيجة لهذه السياسة الصارمة فإنّ البنك لم تحدث به أيّ ديون معدومة منذ نشأته وحتى الآن. وتدرك الدول التي تتعامل مع البنك هذه السياسة الصارمة، ولهذا تضع سداد أقساط ديون البنك وفوائده في قمة أولويات الالتزامات الخارجية، بل إنّه إذا حدث أن عجزت الدولة المقترضة عن السداد، فإنّ ذلك يسبب للدولة المدينة نتائج وخيمة تؤثّر على السمعة الدولية للدولة وتهزّ من الثقة الائتمانية لها لدى جهات الإقراض المختلفة.
وفي هذا الخصوص يتبع البنك سياسات عقابية صارمة حازمة، فإذا تأخرت الدولة عن سداد قسط أصل الدين، وكذلك الفائدة لمدة تزيد عن ثلاثين يوماً، يسارع البنك وبصورة رسمية لإبلاغ المديرين التنفيذيين الممثلين لحكومات الدول الأعضاء بهذا التأخير.
في الحلقة القادمة سيبيّن الكتاب كيف تطورت النظرة الاقتصادية من "الأفكار الكينزية" و"خطة مارشال" التي دعت إلى ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، إلى الليبرالية الاقتصادية التي يتبناها البنك فلسفة عميقة له. وأعتقد أنّ هذا ليس من التطور بقدر ما هو إرادة ألاّ تقوم للدول قائمة بتخلّي الدول عن دورها الاقتصادي، بينما هم بنوا دولهم باقتصاد الدولة أولاً. فإلى اللقاء في حلقة قادمة.
السبيل
والكتاب اثنا عشر فصلاً، حافلة بالحقائق والمعلومات، وأمّا صفحاته فحوالي ثلاثمئة وخمسين صفحة.
ومثل هذه الكتب والأبحاث مهمة أصلاً وتزداد أهميتها في زمن العولمة، حيث أنّ هذه المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد (أو النكد) الدولي، والأمم المتحدة والقانون الدولي والقوات الدولية، وما شابه وشاكل، هذه كلها أذرع العولمة. في هذه الحقبة تمددت هذه المؤسسات والشركات العابرة للقارات وتعملقت في الوقت الذي تقلصت فيه الدولة وتراجع دورها الاقتصادي، وتراجع القطاع العام إلى حد الإمّحاء الكامل، حتى تنفرد المؤسسات الدولية باقتصادات الدول وطحن المواطنين في ظل تهميش دور الدول.
هم يضعون القوانين وهم يفرضون "الشركاء الإستراتيجيين" على "الدول الفاشلة"، كل ذلك ليزداد الغني غنى ويزداد الفقير فقراً. والوصفة السحرية الأولى للبنك الدولي هي رفع الدعم عن السلع الأساسية لتتمكن الدولة من جمع قرشين وسداد الدين، وتكون بهذا قد بذرت بذور الثورة من حيث لا تدري.
"التاريخ السري للبنك الدولي" المؤلف: زكي العايدي. الترجمة: سينا للنشر. مراجعة: ريشا جاكمون، تحرير: علي حامد، نشر: سينا للنشر، والكتاب مؤلف بالفرنسية ومطبوع بها سنة 89 الطبعة الأولى بالعربية سنة 92.
والمؤلف من مواليد وجدة بالمغرب، ودكتوراة علوم سياسية من باريس، وهو أستاذ في معهد العلوم السياسية بباريس واستشاري في العلاقات الدولية، ويكتب لصحيفة ليبراسيون اليومية.
وقدّم للكتاب الدكتور رمزي زكي، أستاذ في الاقتصاد وله ثمانية عشر كتاباً، وحاصل على عدة جوائز. وممّا قال: "هذا كتاب مثير للفكر، غني بالمعلومات، زاخر بالحقائق المجهولة. وغريب في رسالته التي يود أن يبعث بها للقارئ، فهو يتحدث عن أكبر قوة مالية عالمية مؤثرة في عصرنا الراهن، وهو البنك الدولي، تلك القوة التي تطورت على نحو مذهل وجعلت البنك يتحكم في خيارات شعوب دول العالم الثالث في مجال تنميتها الاقتصادية، وطريقها المستقل للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، بل إنّ هذه القوة، كما يصفها مؤلف الكتاب، قد جعلت البنك "يضغط على سيادة الدول"، ويصل إلى الحد الذي يضع فيه اقتصاداتها "تحت الوصاية" ويفرض "رقابة على المصروفات العامة"، بل على "حق الجلوس في مجلس الوزراء"، على حد تعبير المؤلف.
والإشارات الضوئية التي ستلمحها بصيرة القارئ وهو يطالع هذا الكتاب المثير تتجه لكشف النقاب عن كيفية تطور البنك إلى هذا الحد الذي جعله يتمتع بهذه القوة المؤثرة في دول العالم الثالث، رغم أنّ المبالغ التي يقرضها لهذه الدول تمثّل نسباً تافهة من إجمالي الاستثمارات التي تحققها، وإيضاح آليات هذه القوة وخباياها ومرتكزاتها الفكرية والنظرية.
إنّه حينما أنشئ البنك ضمن ترتيبات مؤتمر "بريتون وودز" سنة 46، كان مجرد مؤسسة صغيرة، بالمقارنة بالهيئة الضخمة التي يمثّلها اليوم. لم يكن أحد يتخيّل أن تتحول قوة البنك إلى هذا القدر من الضخامة إلى الحد الذي دفع بالاقتصادي المعروف هاري جونسون لأن يصفها بأنّها أصبحت مؤسسة رئيسية لحكومة عالمية، فلم تكن تلك القوة ظاهرة أو ممكنة آنذاك، وكان باستطاعة الدول النامية حديثة الاستقلال في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تبنّت برامج طموحة للتصنيع والتنمية ورفعت شعارات الاستقلال الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وزيادة مستوى المعيشة (مصر نموذجاً)، كان باستطاعتها أن تبتعد عن التعامل مع البنك، في فترة الخمسينيات والستينيات تجنباً لشروطه وتوجهاته التي كانت لا ترضى عن أيّ سياسة وطنية مستقلة تميل لإعطاء القطاع العام قوة دافعة وقائدة للتنمية وتعتمد على التخطيط الاقتصادي كوسيلة لإدارة وتوجيه النشاط الاقتصادي وتطمح في تحقيق هذا القدر أو ذاك من اعتبارات العدالة الاجتماعية. (العكس هو الذي حصل أنّ القطاع العام جرى تفكيكه بتراب الفلوس وجرى انسحاب إستراتيجي للدول العظيمة من حياة الناس (إلاّ..) لصالح تغوُّل رأس المال والشركات العابرة للقارات والقوميات، بعدما جرى إفشال متعمد للقطاع العام).
لقد أنشئ البنك الدولي للتعمير والتنمية في ضوء ميثاق "بريتون وودز"، وبناء على المقترحات الأمريكية، لكي يستكمل مهام صندوق النقد الدولي التي انحصرت أساساً في قضايا الأجل القصير (التغلب على مشكلات عجز موازين المدفوعات وتنظيم أحوال سعر الصرف والسيولة الدولية). أمّا مهام البنك فتتعلق بالآجال الطويلة، حيث كان الغرض من إنشائه هو تقديم القروض طويلة الأمد لتشجيع حركة الاستثمارات الدولية للدول الأعضاء والتي تساعدها في عمليات التعمير والبناء لاقتصاداتها المدمرة أو المخربة، وحفز وتشجيع الإمكانات والموارد الإنتاجية في البلاد النامية. كما جاء ضمن أهداف البنك تشجيع الاستثمارات الأجنبية الخاصة عن طريق الضمانات والمساهمة في القروض والاستثمارات الأخرى التي يقوم بها القطاع الخاص بالشروط المناسبة، والعمل على تحقيق النمو المتوازن طويل الأجل للتجارة الدولية.
ثم تدّعمت قوة البنك بإنشاء مؤسستين تابعتين له، هما رابطة التنمية الدولية ومؤسسة التمويل الدولية، بناء على مقترحات لجنة روكفلر في الخمسينيات من هذا القرن، وأثناء رئاسة "أيوجين بلاك" للبنك.
ومنذ لحظة ميلاد البنك وحتى الآن، استحوذت البلاد الرأسمالية الصناعية بالسيطرة على إدارته وتحديد سياساته وتخصيص موارده، وذلك من خلال ما استحوذت عليه من أغلبية في رأسماله، وبالتالي على الشطر الأعظم من القوة التصويتية في البنك. ورغم أنّ رأسماله المدفوع لا يتجاوز 20 بالمئة من رأسماله المرخص، إلاّ أنّ قوته المالية قد تعاظمت على نحو مذهل بسبب قدرته الهائلة على الاتصال بأسواق رأس المال العالمية وتجميع ما يحتاجه منها من موارد من خلال سنداته التي يطرحها في هذه الأسواق.
ونظرة سريعة على تاريخه تشير إلى أنّ البنك في التحليل الأخير هو مجمع عالمي لرؤوس الأموال الفائضة في الدول الرأسمالية، والتي تبحث من خلال البنك عن فرص للربح المضمون، ذلك أنّه في كثير من الأحيان تفضّل الدول الرأسمالية الكبرى إقراض أموالها الفائضة للبنك بدلاً من إعطائها في شكل قروض ثنائية حكومية للدول التي تحتاج للاقتراض، حيث أنّ البنك باعتباره وكيلاً للمستثمرين يتمتع بسلطات قوية ويحرص على أن تكون مشروعاته التي يموّلها مضمونة، كما أنّه يدقق بشكل حازم في قدرة المقترضين على السداد وفي تقييم المخاطر التي يتعرّض لها اقتصادياً بشكل محكم، وله في ذاك جيش جرار من خبرائه الماليين والتكنوقراط الاقتصاديين. ومن ناحية أخرى، تفضّل الحكومات الرأسمالية الإقراض من خلال البنك، لأن ذلك يجنّبها مشكلات الإدارة المتزايدة والتعقيدات المختلفة التي عادة ما تصاحب القروض الحكومية الثنائية. أضف إلى ذلك أنّ البنك يتشدد تشدداً صارماً في شروطه التي يمليها على البلد المقترض وفي ضرورة انتظام الدولة المدنية في دفع فوائد الدين وأقساطه في مواعيدها المحددة والمجدولة سلفاً، وهو يرفض رفضاً قاطعاً إعادة جدولة ديونه في حالة إعسار المدين عن السداد. ونتيجة لهذه السياسة الصارمة فإنّ البنك لم تحدث به أيّ ديون معدومة منذ نشأته وحتى الآن. وتدرك الدول التي تتعامل مع البنك هذه السياسة الصارمة، ولهذا تضع سداد أقساط ديون البنك وفوائده في قمة أولويات الالتزامات الخارجية، بل إنّه إذا حدث أن عجزت الدولة المقترضة عن السداد، فإنّ ذلك يسبب للدولة المدينة نتائج وخيمة تؤثّر على السمعة الدولية للدولة وتهزّ من الثقة الائتمانية لها لدى جهات الإقراض المختلفة.
وفي هذا الخصوص يتبع البنك سياسات عقابية صارمة حازمة، فإذا تأخرت الدولة عن سداد قسط أصل الدين، وكذلك الفائدة لمدة تزيد عن ثلاثين يوماً، يسارع البنك وبصورة رسمية لإبلاغ المديرين التنفيذيين الممثلين لحكومات الدول الأعضاء بهذا التأخير.
في الحلقة القادمة سيبيّن الكتاب كيف تطورت النظرة الاقتصادية من "الأفكار الكينزية" و"خطة مارشال" التي دعت إلى ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، إلى الليبرالية الاقتصادية التي يتبناها البنك فلسفة عميقة له. وأعتقد أنّ هذا ليس من التطور بقدر ما هو إرادة ألاّ تقوم للدول قائمة بتخلّي الدول عن دورها الاقتصادي، بينما هم بنوا دولهم باقتصاد الدولة أولاً. فإلى اللقاء في حلقة قادمة.
السبيل