أصحاب الدولة وصفي التل "نموذج"
أقصد فيما أقوله لاحقاً، أي رئيس للوزراء أُسندت له أو سوف تسند له رئاسة الحكومة في الأردن وبعد ،، فلك في البعض من رجال الأردن قدوة ، فقد مرّ في تاريخ الأردن شخصية اسمها وصفي التل . كان حسب علمي أول من ذيّل َ كتابه إلى جلالة الملك بعبارة... خادمكم الأمين وصفي التل، هذا الرجل أحسن َ الموازنة بين البدائل ، وكذلك المقارنة بين الأولويات ، تصرّف ضمن الهامش المتاح لرئيس الحكومة الأردنية ، ولكن بطريقة برزت فيها فرادته ، وزرعته بذاكرة الأردنيين ، كشخصية أردنية مسؤولة وفريدة .
لقد فهم وصفي التل أن الإخلاص للملك لا ينفصل عن الإخلاص للوطن والعمل من أجل سعادة الناس ... لم يوفر وصفي التل فرصة عمل لكل عاطل عن العمل فوق ما كان متاحا ً منها ... لكنه كان الأقرب إلى كل شاب ، الذي كان بإمكانه أن يراه شخصيا ً في يوم كان قد حدده من كل أسبوع .وكان يخرج الشاب المُطالب بالعمل من عنده راضيا ً حتى وإن لم يوفر له العمل فقد كان يكلمه وكأنه أبوه أو أخوه الأكبر ، بل وينهره أحيانا ً ويدله إلى أين يذهب ويلومه على كسله وتقاعسه وهو يربِّت على كتفه بلهجة الأخ لأخيه الذي يكاد أن يشتبك معه بالأيدي مع ابتسامة وكشرة حين يلزم الأمر ، ضمن حدود تبقي الشاب داخل دائرة الشعور بأنه مطلوب منه أن يتعاون مع هذا الرجل الذي أشعره بأنه يحمل همه (وقد خبرت بنفسي هذه التجربة وقد قابلته أكثر من مرة كشاب في مقتبل العمر ) فيخرج قرير العين هادئا ً ، وربما تشجّع فعلا ً وجّد في البحث عن أي عمل إلى أن يجده ثم أنه التحم بحياة الناس ، لم يترفع عنهم ، ولم (يجعص عليهم ) بلغة العامة كانوا يحرثون وكان يحرث مثلهم على حصان ، وكان بإمكان أي فلاح سلطي أن يميّل عن الطريق قليلا ً ليجلس مع رئيس الحكومة الحرّاث بعد أن يوقف حصانه كي يستريح من الحراثة ، ويتحدث معه عن شؤون الحراثة وشؤون الناس .
وكما التحم بحياة الناس عمل على ان يلتحم بالأرض ، فأبدع برنامج معسكرات الحسين ونفذّه رغم الضائقة المالية التي كانت خائفة آنذاك التي على قساوتها لم تستطع أن تقلل من سعادة الناس برئيس الوزراء وصراحته معهم .فأثمر هذا البرنامج هذه الغايات التي نراها اليوم التي تكسو مرتفعات بلادنا في جرش وعجلون ، وعلى جوانب الطرق، وكثير من مناطق الأردن . كان البرنامج إطارا ً ضم ّ طلبة المدارس في العطلات الصيفية . فربطهم بالأرض والوطن ، وصار الواحد منهم هذه الأيام كلما مرّ بغابة ساهم في زراعة أشجارها يشعر وكأنه ينظر إلى جزء من ذاته ومن ذات وصفي التل ، ومن ذات المرحوم الملك حسين طيب الله ثراه .
كما أن وصفي التل قد أعاد الاستقرار الأمني والاجتماعي للأردن ، بعدما عصفت به كثير من القوى الخارجية والداخلية وحتى لا يسيء أحد فهمه آنذاك ولا في المستقبل ؛كان يردد دائما ً ، نحن لم نقاتل الفدائيين الحقيقيين ، بل أولئك الذين يشكلون خطرا ً على الفدائيين الحقيقيين والأردن معا ً . لأجل ذلك تعلّق الأردنيون بوصفي التل وأحبوه على صعوبة أن يحب الأردنيون مسؤولا ً رسميا ً بعد ما رأوه من المسؤولين الأتراك وعساكرهم وما رأوه من جفوة وتعالي ممن جاؤا قبل وصفي التل من الأردنيين وغالبية من جاؤا بعده وافتقارهم للخصائص القيادية والكاريزما التي تميّز بها وصفي. لقد أثبتت تجربة صفي التل بما لا يقبل الشك أن لا تناقض أبدا ً بين الإخلاص للملك والنظام والإخلاص للوطن فقد كان الخادم الأمين للملك تماما ً كما كان الخادم الأمين للشعب ، لم يكن هناك أدى تناقض ، بشهادة الواقع آنذاك ، عربيا ً آمن أن القضية الفلسطينية لا تحلّها الجيوش العربية النظامية بل الحرب الشعبية فدفع الثمن ، فرضية اختبرها حسن نصر الله بلبنان وثبتت صحتها .
جاء بعد وصفي كثيرون ، وذيلوا كتبهم لجلالة الملك " بالخادم الأمين فلان – مثل وصفي التل تماما ً - ... لكنهم ذهبوا " ولم يتركوا أثرا ً في ماضي الأردن ولا في حاضره ..
فقاعة صابون ظهرت كبيرة لساعة وذهبت دون أثر ، سوى تساؤلات تدور بخواطر الناس معجونة بالمرارة . من مثل : كيف يكون خادما ً أمينا ً للملك من ينتهج سياسة يقسوا بها على الشعب ، مع أن الظروف عادية والبلد ليست بحالة حرب. فمهمة رجل الدولة ورئيس الحكومة تقتضي أن يكون خلاقا ً ، مولدا ً للأفكار الإبداعية مولدا ً للفرص والمصادر ، التي يدعم بها استقرار البلد الاقتصادي والاجتماعي ، لا أن يميل كل الميل نحو طريق العاجزين وهو السطو على جيوب الناس فقراء كانوا أو أغنياء ، تحت وهم أن ذلك قد يُرضي ولي الأمر. فذلك وهم لا صبر للملك عليه إلا بحكم الضرورة إلى أن يتضح بؤس مثل هذه السياسات وبعدها لا مناص من إقصاء أصحابها .
وهذا ما يفسر كثرة تغيير الحكومات في الأردن ... فملك الأردن (أي ملك) في الماضي أو في الحاضر والمستقبل، قد لا يسعده أن يُظهر المسؤول له الولاء والطاعة بالكلمات من جهة، ومن جهة أخرى ،يعمل بطريقة يكون مردودها سلبي ومناقض لذلك، فراحة الملك من راحة الشعب وإذا ما تعب الشعب ، لا بد أن يتعب الملك ، حقيقة تاريخية مؤكدة . وسكوته لبضعة أشهر عن أي رئيس قد لا يكون دليل رضى بالضرورة عن سياساته ، بل ربما صبرا ً تقتضيه حسابات سياسية تتعلق بصورة الحكم والاستقرار الشكلي للدولة ...إذ لا يعقل أن يغير الملك الحكومة كل أسبوع أو كل شهر ، بعد أن يخرج من هذا الرئيس أو ذاك ،هذا التصريح أو ذاك حتى وإن كان التصريح لوحده يستوجب التغيير الفوري للرئيس الذي قد يتسبب بربكة في الأسواق ؛ وارتفاع في الأسعار وتوقف بعض المحطات عن بيع صنف من المحروقات قبل موعدها ودون مبرر ،وغير ذلك من التداعيات الناتجة عن مثل هذه التصريحات .
نخلص إلى القول أنه رغم أن أصحاب الدولة في بلدنا قد يكون من المفروض عليهم أن يعملوا ضمن إطار محدد من الحرية والاستقلالية تفرضه ظروف الأردن الخاصة ،وأنهم بمجملهم لم يفكروا الا بخدمة هذا البلد بقدر ما يستطيعوا ؛ إلا أن المشكلة هي (في هذا القدر من الاستطاعة ) الذي يتوفر لكل منهم فهناك هامش للحرية يظل رغم كل القيود ، متاحا ً لكل رئيس ، يمكن من خلاله أن تعمل الفروق الفردية فعلها فيتمايز الرؤساء فيما بينهم على أساس تلك الفروق وبمعيار الانجازات ، فيتميز الواحد عن الآخر ، فمنهم من يعمل ويذهب ويترك بصمات لا يمحوها الزمن ليس بالضمائر فحسب ، بل وعلى الأرض المشاهدة مثل وصفي التل .
ومنهم من يأتي ويذهب دون أن يترك أثراً يذكر إلا مجموعة من الصور ضمن ألبوم عائلي يفرج عليها أحفاده إضافة إلى استخفاف الناس به في سرائرهم . لقد أتى كثيرون وذهبوا كفقاعة صابون ، مع عامل مشترك بين الجميع هو التسامح مع الفاسدين، لكن مع فروق في درجة هذا التسامح فمنهم من حاول التصدي وحاول أن يجتهد فأصاب في بعض الحالات ومنهم من حاول واجتهد وأخطأ أو لم يحاول من الأصل . لكن أتعس الجميع من لا يحاول الاجتهاد أو الإبداع ، لأنه لا يعرف إلا طريقا ً واحدا ً للإنجاز .... هو جيوب أبناء الشعب . فذاك لعمري طريق العاجزين .
أ.د. إدريس عزام