jo24_banner
jo24_banner

الاخوان المسلمون والغرب

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

يقال الكثير والمتنوع عن العلاقة بين حركة الإخوان المسلمين والولايات المتحدة الأمريكية . ورأيت أن أطرح وجهة نظر شخصية استقرائية لأحداث عاصرناها، يمكن أن تنير بعض الجوانب المثيرة للجدل حول هذا الموضوع مع اعتذاري المسبق عن أي خطأ وشكري الجزيل لأي تصحيح. وقبل أن أبدأ رأيت أن أقدم للموضوع ببعض ما يوضح الزاوية التي أنظر من خلالها للنظام العالمي ، والرؤية التصورية لتبادلية المصالح كمنطق حاكم للعلاقات بين دول العالم ، دول المركز فيما بينها من جهة ثم دول المركز هذه والدول المحيطية بها من جهة أخرى
دول العالم نوعان : دول مركزية هي غالبا عظمى وذات سيادة واستقلال حقيقي ، ودول أطراف أو (هوامش ) أو محيطية كما تُسمى أحيانا ً، وهي غالبا ً نامية وتابعة وطالما كانت تابعة فلا سيادة لها ولا استقلال حقيقي لها .


تلعب الدول المركزية دور المخطط لكل ما يجري في العالم (وبخاصة النامي )من أحداث وهي التي تهيء له مسرح يسمى مسرح العملية ، في الغالب يكون واحدة من الدول التابعة وهي التي تعطي الإشارة لبدء الحدث أو اندلاعه ، هي التي تضع خطة تصورية لنهاية الحدث ونتائجه . أحيانا تكون الدول المركزية كلها بصورة الحدث ، وأحيانا ً أخرى بعضها فقط ... وفي هذه الحالات قد يوضع في الاعتبار وفي الخطة من الأساس احتمال معارضة (الغائب )وآفاق احتواء هذه المعارضة أو ثمنها . أما محور الحركة الرئيس في كل ذلك ، فهي المصالح وتحديدا ً المصالح الاقتصادية ومصالح أخرى ثقافية وغيرها لكي تكون بخدمة المصالح الاقتصادية . المصالح الاقتصادية ثابتة وما عداها من مبادئ وأخلاقيات ، وأحلاف أو صداقات ... الخ فمتغيرة .


لا تنظر دول المركز لدول الأطراف على أنها (دول و مجتمعات راشدة أو راقية ) بل هي دون سن الرشد بنظرها ومتخلفة . وتقضي حاجة الكوكب (العالم) إلى النظام ،بأن تقوم دول المركز بتشكيل وتنميط مختلف جوانب الحياة والسياسات بدول المحيط إلى درجة قد لا يخفى عليها شيء هام . وقد ساعدها التقدم التكنولوجي الهائل الآن على إلغاء المسافات المكانية والزمانية أمام رقابتها الدقيقة لكل ما يدور بدول المحيط .


أما دول المحيط فهي بحكم تبعيتها القسرية صارت تعمل (كما ينظر إليها )كمجال حيوي لدول المركز ، وعلى كيفية قيامها بهذا الدور وخدمتها لمصالح دول المركز ؛ يتحدد كم وكيف الدعم الذي ستناله من دول المركز أو حرمانها من ذلك وتركها نهبا ً للمتاعب والمشاكل ... وبخاصة إذا لم يكن بذلك ما يلحق أذى بمصالح دول المركز ...إذن قد لا يبدو دقيقا ً أن يتصور البعض أو يعتقد ببراءة دول المركز من أي حدث يحدث على سطح الأرض .أو أنه قادر على إقامة حدث أو إنهائه ، فهم أصحاب القرار بكل الأحوال . لكن ذلك لا يلغي إمكانية أن تنشأ أو تقوم حركات أو أحداث بمبادرات وضمن نطاقات محلية داخل دولة محيطية هنا وهناك ، لكنها دون شك سوف تخضع – بعلمها أ بدو علمها – إلى عملية تقييم من قبل دول المركز التي تقع الحادثة هذه ضمن محيطها ، فإذا كان فيه ما يمكن أن يخدم مصالحها ولو على المدى البعيد أو هناك التقاء وتقاطـُع مع مصالحها عند نقطة او أكثر دعمتها؛ ليس مباشرة بالضرورة بل وربما بأسلوب غير مباشر .


إن دول المركز تتقاسم المنافع وتتوافق ؛ لكنها لا تتعادى جديا ً من أجل مصالح دولة محيطية مهما كانت نلك المصالح حيوية لتلك الدولة . وعليه صار من الخطأ في مجال السياسة الدولية ، أن تبني دولة محيطية حساباتها على إمكانية وهمية هي استغلال الخلاف بين دول المركز إزاء أي قضية خاصة بهذه الدولة . فدول المركز تدافع دائما ً عن مصالحها ومنطق الدفاع ليس هجوميا ً ولا استعدائيا ً بالضرورة . ولا أسرع من اتفاق (المدافعين)لأنهم بالأساس في الخندق نفسه (خندق الدفاع )رغم تناقض المصالح أحانا ً . والمدافع يظل في سعي دائم للاتفاق والتوافق مع المدافع الآخر إلى أن يتحقق شرط ذاك التوافق ...ألا وهو التنازلات المتبادلة بمستوى مقبول إزاء تلك القضية عندها فقط تزول المسافة بينهما ويتقاربان بسرعة ، حيث تصبح نهاية تلك القضية محددة وواضحة المعالم .

إن معظم الأحداث السياسية التي شهدتها البلدان العربية في القرن الماضي وإلى اليوم كانت (مُـنـْتـَجا ً) لهذه السياسات الإستراتيجية الدولية. كانت دول المركز هي الفاعلة والبلدان العربية منفعلة . كما أن الحركات السياسية التي نشأت هنا أو هناك في البلدان العربية ؛ لم تكن في منأى عن هذه السياسات وصراع المصالح الدولية ، سواء بقصد وعلم من أسسوها أو بدون علمهم ومقاصدهم وللتدليل على ذلك رأيت أن آخذ من تاريخنا الحديث حركة (الإخوان المسلمين) كنموذج يجسّد ذلك فهي من أشهر الحركات المؤثرة والمثيرة للجدل حيث يبدو بوضوح حقيقة التشابك بين العالمي والمحلي و كيف أن التقاء المصالح والمنطق التبادلي يؤسس لعلاقات سياسية وعملية بين هذين الطرفين قد لا تكون مستهدفة لذاتها ، لكنها تكون (كواقع )تمليه الحقائق والمعطيات السابقة كلها ، كما يمليه ويقضي به المنطق العقلاني ، البعيد عن منطق العاطفة الذي يؤسس لإطلاق أحكام معيارية وتقييمات وتصنيفات وتهم لا تعكس سوى تجاهل لحقيقة تكامل دول هذا العالم وتداخل مصالحها وتشابكها.

كانت البداية في سنة 1917 وما تلاها، عندما نجحت الثورة البلشفية في الإطاحة بالمجتمع القيصري في روسيا ، ثم انطلقت فشكلت المنظومة السوفيتية الذي تشكل منها الاتحاد السوفيتي المعروف ، الذي صار بعد ذلك قوّة عظمى عالمية طرحت نفسها كقوّة مناصرة لفقراء العالم وعماله ، في مواجهة القوّة العظمى الغربية الرأسمالية المناصرة للأغنياء ورأس المال. لقد وجهت القوة الجديدة الصاعدة نداءها إلى فقراء العالم وعمّاله بأن يتحدوا لتحرير أنفسهم من الاستغلال والاستعمار والاستبعاد والفقر، كان الشعار مثاليا ً ، وكانت الأدوات سليمة لأنها لا تؤمن بالغزو الاستعماري ، الذي اعتبرته وسيلة الغرب في استعباد الشعوب.


خشيت القوة الغربية على مصالحها في الدول التابعة لها تقليديا ً ومناطق نفوذها ، بعد أن لاحظت أن انتشار الأيدلوجية الاشتراكية صار كالنار في الهشيم ، فالفقراء والمـُسْتغَـلون (بفتح الغين) كثيرون ، والدعوة برّاقة وجذّابة إذ لا أجمل ولا أحلى وأكثر جاذبية للفقير الجائع ممن يدعوه إلى (سوق العيش )فذاك حلمه المزمن .فكان لا بد من وجود مقاومة لهذا المد الشيوعي الذي ينادي بالاشتراكية كخطو أولى نحو تحقيق الشيوعية (مجتمع العدل والمساواة ) ولا بد من تشجيعها إن كانت موجودة أو إذا وجدت .
في تلك الأثناء كان الفقر قد استوطن مجتمعات الشرق الأوسط عموما ً ، فالإقطاع قد تمكن من الإمساك بتلابيب المجتمع العربي المصري برعاية بريطانية وفرنسية بشكل خاص ،أما مجتمعات بلاد الشام فقد صار الأغوات يعيثون فيها فسادا ً وإفقاراً خدمة لمصالح الدولة العلية العثمانية .إذن الظروف كانت مهيأة لأن تجد الدعوة الاشتراكية طريقها إلى هذه المجتمعات بمعيار الفقر السائد ، لكن فرصة إعاقة ذلك أيضا ً كانت متاحة بمعيار تناقض تلك الدعوة مع الدين .الذي يحظى بسيطرة شبه كاملة على مشاعر شعوب هذه المنطقة ووجدانها. كان لا بد من مقاومة انتشار الشيوعية سلميا ًإذا أمكن ، أي بالطريقة نفسها التي تنتشر بها الدعوة إلى الاشتراكية.


في هذه الأثناء بدأ (حسن البنا) يضع اللبنات الأولى في بناء تنظيمية الذي صار يعرف بجماعة (الإخوان المسلمون) في مصر ، والتي أميل أن اسميها حركة (الإخوان المسلمون )ألبس حسن البنـّـا حركته لباسا ً ً دعويا ً فكان ينتقل بين المراكز والمناطق المصرية يعظ الناس ويلقي الخطب في المساجد ويجمع من حوله بشخصيته الكاريزمية الأنصار . وكانت رسالتها الواضحة الدعوة للتمسك بالعقيدة والدين الإسلامي الصالح لكل زمان ومكان بوجه التيارات الإلحادية الوافدة ، والتمسك بالإيمان كطريق لا بديل عنه لإصلاح حال الحكام والمحكومين.

وبالتدريج بدأت تتبلور ملامح حركة دينية سياسية منظمة تتزايد رقعة أنصارها يوما ً بعد يوم وكذلك المنتمية إليها والمؤطرين بكوادرها .لم يكن ذلك ليغيب عن عين السلطات البريطانية المسيطرة آنذاك في مصر ، ولا عين السفارة الأمريكية التي كانت تجسّد توثب الولايات المتحدة لوراثة نفوذ بريطانيا الاستعمارية ،وغيرها من دول الغرب الاستعمارية وخاصة في مجال النفوذ التقليدي لتلك الدول في منطقة الشرق الأوسط . وبالضرورة لم تكن هذه الحركة لتعمل من وراء عين السلطات المصرية وعلى رأسها الملك فاروق .


شاءت الأقدار أن تلتقي معا ً المصلحة الأمريكية والمصلحة الوطنية المصرية كانت المصلحة الأمريكية هي وراثة النفوذ البريطاني من جهة والتصدي للمد الشيوعي القادم إلى دولة محيطية محورية من جهة أخرى . أما المصلحة الوطنية المصرية فقد تمثلت بمقاومة الاستعمار البريطاني ونظام الحكم المصري المتحالف معه من جهة ، والتصدي للدعوة الشيوعية الملحدة من جهة أخرى. إذن من الطبيعي أن يتوقع المرء، أن تحظى حركة حسن البـنـّا في مصر بكل الدعم، من تلك القوة الغربية الأمريكية التي كانت أيضا ً تعمل لتحل محل النفوذ البريطاني..لقد أحدث ذلك إرباكا ً لدى السلطات البريطانية ومعهم القصر . فالموقف صار محيرا ً فحركة (الإخوان المسلمون) تعادي الشيوعية بقوة وتحصن الناس ضد تغلغل الفكر الاشتراكي بشتى السبل ،إذن هي في الخندق نفسه مع دول الغرب،وتحديدا ً مع الولايات المتحدة الأمريكية .لقد نجحت الحركة في أن تربط ما بين الفكر الاشتراكي وبين الإلحاد الديني من جهة ، وبينه وبين التحلل الأخلاقي وتدنيس العرض من جهة أخرى ، وهذا في صالحهم (صالح البريطانيين) لكن هذه الحركة تمارس دورا ً توعويا ً تثقيفيا ً للشعب المصري ، مما قد يفتح عيونهم على أحوالهم القائمة وعلى الفساد المنتشر ... وهذا خطر على نظام الحكم القائم أولا ً وعلى البريطانيين أنفسهم الداعمين له ثانيا ً .


في تلك الأثناء ، صار المجال مناسبا ً لحركة وطنية عسكرية مصرية أن تستفيد من الوعي الذي أحدثته حركة الإخوان المسلمون السلمية لدى الجماهير مدنيين وعسكريين ، فكان الجيش المصري الحاضنة الطبيعية لهذه الحركة الوطنية .فتشكلت من بين صفوفه حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر الذي كان قد استغل ّ انكشاف أمر السلاح المصري الفاسد في حرب فلسطين 1984، لتعبئة بعض العسكريين ضد النظام القائم ، فكان أن سهّل ذلك عليه انجاز مهمّة تشكيل التنظيم وأن يكون هو قائده . نجح عبد الناصر في أن يتحالف استراتيجيا مع أحد كبار القادة العسكريين المقربين من القصر وهو اللواء محمد نجيب على وعد أن يكون نجيب الرئيس بعد نجاح الثورة .


لم تكن حركة الضباط الأحرار - من وجهة نظري – حركة سرية موغّلة في السرية كما اعتاد الكثيرون على القول.ففي الجيوش عادة ً لا مجال للسريّة ،فكل حركة لضابط هي دائما ً تحت الرصد والطمع بالامتيازات تغري كل فرد بأن لا يسكت عن الآخر ، وبسبب هذه الظاهرة يفوز كثيرون بالرتب العالية وبسرعة ، ويحال إلى التقاعد كثيرون في سن مبكرّة ،مسألة شائعة في الجيوش العربية .وعليه : فلا بد أن يكون سكوت السلطات المصرية والبريطانية عليها ، إلا سكوتا ً اضطراريا ً لسببين: الأول أن تنظيم الضباط الأحرار هذا هو على صلة بحركة الإخوان المسلمين التي تقف مع الأمريكان وبالضرورة مع البريطانيين بوجه المد الشيوعي ،بل وربما كان أقرب لأن يكون ذراعها المسلح .والسبب الثاني : أنها تتلقى الدعم من الأمريكان الداعمين لحركة الإخوان المسلمين من الأساس وهؤلاء أيضا ً يقفون معا ً ضد الشيوعية والقصر . فما العمل ؟؟ كان الخيار أن لا عمل ضد هذا التنظيم ،فأي عمل مضاد لا يفهم إلا أنه ضد الحلفاء الأمريكان ،الذين يبذلون جهدا ً كبيرا ً لمواجهة المد الشيوعي الخطير ليس على الأمريكان ومصالحهم فحسب بل وعلى البريطانيين والملك أيضا ً.


في مثل هذه الأجواء المربكة قامت ثورة الضباط (أو انقلابهم سمّه ما شئت ) متحالفة مع الإخوان ضد الإنكليز وحليفهم الملك فرأس الدولة المصرية الجديدة اللواء محمد نجيب ،ثم أقصي بعد أن استقرت أوضاع مصر خلال سنتين ،ليتولى جمال عبد الناصر حكم مصر ،الذي لم يلبث أن انقلب على الأمريكان وهم من ساعدوا على توفير الغطاء والدعم للإخوان المسلمين الحاضنة الأولى للثورة على القصر والانكليز . أما حسن البنــّــا ،فكان قد تم اغتياله ولا مصلحة لاغتياله إلا لجهتين هما : الإنكليز ومعهم الملك لدوره في توعية الناس ببؤس أحوالهم ومناداته بالحكم الإسلامي ،والشيوعيون لدوره في تأسيس الحركة المناهضة الأساسية للمد الشيوعي .


وعندما انقلب جمال عبد الناصر على الولايات المتحدة بذريعة أحجامهم عن دعمه ماليا ً لبناء السد العالي ،اتجه رأسا ً نحو المنظومة السوفيتية... فكان لابد لحركة الإخوان المسلمين من معارضته لأن ما قام به لا يعني من وجهة نظرهم إلا وقوفاً في صف الشيوعيون المتناقضين مبدأيا ً مع حركة الإخوان المسلمين من جهة ، كما يعني أخرى من جهة أخرى تنكرا ً لما قدمته الولايات المتحدة له من دعم ومساعدة عبر جماعة ( الإخوان المتحالفين) معها استراتيجيا ً لالتقاء المصالح إلى جانب ما وفرّته له من دعم وحماية من بطش الملك والإنكليز الذين كانا (دون أدنى شك) على علم بحركته داخل الجيش .


كان من الطبيعي أن تقف الولايات المتحدة وحركة الإخوان المسلمين موقفا ً معارضا ً لجمال عبد الناصر وقام سيد قطب خليفة حسن البنا وجسّد معارضة هؤلاء الشديدة لجمال عبد الناصر والنظام المصري الجديد .حاول النظام المصري احتواء هذه المعارضة لكن محاولاته باءت بالفشل؛ إذ لم يكن موقف سيد قطب موقفا ً شخصيا ً مما قام به جمال عبد الناصر بل أيدلوجيا ً . فجمال لم يقف ضد الدين أو يشجّع الإلحاد ، وبذلك يلتقي سيد قطب مع الولايات المتحدة في معارضة جمال وتوجهاته السياسية نحو الإتحاد السوفيتي والاشتراكية . فبدا وكأنه في الخندق نفسه مع الولايات المتحدة التي يستحيل أن تلتقي مع كل من يسير بفلك الإتحاد السوفيتي عدوّها اللدود ؛ وهكذا وصل الخلاف بين قطب والنظام المصري الجديد إلى طريق مسدود انتهى بإعدام سيد قطب واتجه المشهد السياسي المصري نحو الاستقرار لتطفو على سطحه معالم بارز أهمها : نظام علماني جديد تحالف استراتيجيا ً مع الإتحاد السوفيتي العدو المشترك لكل من الإخوان المسلمين والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا.


لقد كان في إعدام سيّد قطب أكثر من رسالة : الأولى موجهة لاسترضاء بريطانيا تحديدا ً التي خرجت مهزومة معنويا ً من مصر بعد أن هُزم الملك حليفها هناك ، وكان لحركة الإخوان دور في ذلك . ذلك لأن بريطانيا قريبة من المنطقة وقادرة على التسبب بالمتاعب وعلاقاتها متينة مع إسرائيل العدو الأول لمصر . وقد لا تقبل بالخديعة الإخوانية – الأمريكية لها إذ سكتت على حركة الضباط الأحرار وحاضنتهم حركة الإخوان المسلمين مراعاة للولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تغطي على حركة الإخوان بأن تقدمهم كمناصرين لها في مواجهة المد الشيوعي إلى مصر ، وتقضي اللياقة أن تحترم بريطانيا أصدقاء أمريكا ،سيما أن ما يقومون به من تصدي للشيوعية يصب أيضا ً في مصالح بريطانيا إحدى قلاع الرأسمالية العالمية


الرسالة الثانية موجهة إلى الولايات المتحدة على اعتبار أن إعدام سيد قطب هو لطمة قوية للولايات المتحدة ،وإفهامها بأن لا أمل للتقارب معها بعد التوجه نحو الشرق .وأن الذراع السياسي الدعوي المتحالف معها مصلحيا ً ،ها هو قد تم كسره ، وسوف يتم أكثر من ذلك إذا ما لزم الأمر .
كان رد حركة الإخوان المسلمين بأن حزمت أمرها بشّن هجوم كاسح ضد جمال عبد الناصر وثورته شخصيا ً أولا ً وضد نظام الحكم المصري العروبي ثانيا ً مع أنهم المؤسسون (لثورته من الأصل ) ، فرسموا له صورة المعادي للدين والقاتل للرموز الدينية ،وأنه يحابي الشيوعيون الكفرة وأنه على علاقة باليهود والصهيونية والماسونية إلى آخر ذلك من عمليات التشويش والتشهير ... لم يكن ذلك سهلا ً أن يقوموا به في مساجد مصر ،فاستخدموا بمساعدة فروعهم في الدول العربية ،مساجد تلك الدول كأماكن لشن الهجوم على جمال عبد الناصر وتشويه صورته وصورة ثورته، أما بريطانيا فانصرفت إلى التحريض والحشد العسكري بالتعاون مع إسرائيل وفرنسا وقاموا بالعدوان الثلاثي على مصر 1956 واحتلوا بعض المدن المصرية كالسويس وبور سعيد واحتلت سيناء من قبل إسرائيل .


أما الولايات المتحدة الحليفة السابقة لجمال عبد الناصر (عندما كانت حركته ما زالت في (حضانة) الإخوان المسلمين في بداياتها) ، فقد اكتفت بالسكوت عمّا تقوم به حليفتها حركة الإخوان المسلمين الذي رأته يلتقي مع مصلحة بريطانيا والدول المتحالفة معها ضد جمال وثورته . ورأت في ما قد يحصل فرصة تستطيع من خلالها أن تقدم خدمة لمصر تساعدها على التهدئة، فمالت كعادتها (كدولة عظمى) إلى التهدئة مع جمال أملا ً في تحسين العلاقة معه وتخفيف ضغطه الذي صار يتزايد على جماعة( الإخوان المسلمين) . وجسدت كل ذلك بأن عارضت العدوان الثلاثي على مصر وأصدرت إنذارا ً شديد اللهجة (ومؤقتا ً) بضرورة الانسحاب من كل الأراضي المصرية المحتلة ، المدن ، وصحراء سيناء فتم لها ذلك وأفشلت العدوان الثلاثي .


عادت الأمور إلى الاستقرار على سطح المشهد السياسي المصري فهناك حركة الإخوان التي انخرطت بما يشبه الحرب الباردة ضد الثورة المصرية عموما ً وجمال عبد الناصر على وجه الخصوص وهناك إسرائيل ، وبريطانيا وفرنسا ، دول لم تتوقف عن التخطيط للإطاحة بالنظام المصري حليف الاتحاد السوفيتي المعادي لتلك الدول وصار في الميدان قوّتان تتصارعان : الأولى مصر بقيادة جمال عبد الناصر المدعوم من الإتحاد السوفيتي ، والثانية : فرنسا، بريطانيا ، إسرائيل مدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية هذا من الأجانب ومن العرب يقف في هذا الصف حركة الإخوان المسلمين في كل الدول العربية ، والنظام السياسي السعودي والنظام السياسي الأردني ولكن إعلاميا وعلى خجل .انتهت الحر ب الباردة إلى حرب ساخنة اندلعت عام 1967بين مصر وإسرائيل ثم انضمت سوريا والأردن إلى مصر فحققت إسرائيل نصرا ً كاسحاً ب 6 أيام على جميع هذه الدول ، وكانت مساعدة أمريكا لإسرائيل هذه المرّة حاسمة وربما هي التي رجحت كفة الميزان لصالحها .
استفاق العرب على هزيمة منكرة لا يدرون ماذا حدث ، وكيف حدث فمرّة يُقال (أن القيادة العسكرية المصرية كانت مخترقة من قبل الأعداء ) وأخرى يُقال (أن العرب لم يكونوا جادين فعلا ً في أن يشنوا الحرب رغم ما قاله جمال عبد الناصر وإغلاقه لمضايق ثيران وخليج إيلات ) ...... الخ ذلك من التأويلات لكن ما حدث حدث ... وصار لا بد للعرب من الثأر، فأعلن جمال عبد الناصر (بعد أن عاد عن الاستقالة التي تقدم بها كقائد مهزوم ، ورفضها كل الشعب المصري ماعدا جماعة الإخوان المسلمين ) أعلن حرب الاستنزاف على إسرائيل وإعادة بناء الجيش المصري على أسس حديثة لكي يسترد بالقوة ما أُخذ َ بالقوّة شعار طرحه والتزم به أمام العالم . لكن القدر لم يمهله وتوفي قبل أن يسترد الأرض فأكمل الرئيس المصري أنور السادات المهمة واسترد الأرض المصرية حربا ً وإلى عمق محدد في سيناء،لكن بالمقابل أنهى الوجود السوفيتي من مصر ، وهو مطلب طالما تمنته الولايات المتحدة ، وبريطانيا وإسرائيل أيضا ً .

لقد أدرك السادات أن العالم قد لا يبدو بأنه سيسمح للعرب بالنصر على إسرائيل ولو نصرا ً محسوبا ً إلا إذا كانوا يعملون ضمن المنظومة الرأسمالية الغربية ،فالاتحاد السوفيتي لم ينفع جمال أبدا ً ، إذ هزمه الغرب وقاعدته إسرائيل عام 1956ولم يفعل الاتحاد السوفيتي شيئا ً عمليا ً . وهُزم العرب عام 1967 ولم يفعل الاتحاد السوفيتي شيئا ً .فكان رهان السادات على الغرب قبل أن يشنّ حرب استرجاع الأراضي المصرية عام 1973،وفعلا ً (سـُـمح) له بالانتصار بل وســُـمح للسعودية أن تساهم بذلك النصر كي لا تشذ عن الركب العربي فهددت بإيقاف ضخ النفط إلى الدول الغربية إذا ساعدت إسرائيل على هزيمة العرب .فكان أن انتصر العرب واسترجعوا أراضي مصرية كما استرجعت سوريا أيضا ً أراضي سورية .كانت تلك الحرب رسالة غربية واضحة للعرب بأن مصلحتكم مع الغرب وليس مع الشرق .ها أنتم اختبرتم هذه المقولة وثبت صوابها ولكم الخيار .


كان ذلك بالنسبة لمصر أما سوريا والأردن وقد دخلت الحرب إلى جانب مصر (عبد الناصر) المدعوم سوفيتيا ً ،وانهزم، فكانت العقوبة أن أُخل ّ باستقرارهما الأمني الداخلي .ففي الأردن بواسطة بعض المنظمات (أو عناصر ضمن المنظمات) الفلسطينية على الساحة الأردنية ،وفي سوريا بواسطة حركة (الإخوان المسلمين) ، وبعد أن ذاقتا الأمرين سُمح لهاتين الدولتين بالقضاء على مظاهر التمرد والإخلال بالاستقرار الأمني .فكان أن طردت الأردن المنظمات الفدائية وبشكل مرحلي إلى خارجها ، أما سوريا فقد بطشت بحركة الإخوان المسلمين بقسوة شديدة ،وتوزعوا بين قتيل أو سجين . فكان ذلك درسا ً من دروس السياسة التي ينبغي للدول الصغيرة أن تعيه بدقة.
وختاما ً ، ولكي لا يسيء أحد الفهم نقول أن كل ما سبق من إشارات إلى علاقة حركة (الإخوان المسلمين) مع الولايات المتحدة أو غيرها لا تعني خيانة بالضرورة ،ولا تعني أن كل عنصر أو قيادي بهذه الحركة وبأي مجتمع ،هو بصورة هذه البدايات أو تلك الوظائف التي تؤديها الحركة بقصد أو بغير قصد أحيانا ً لكنها تظل علاقات مصلحية؛ يفرضها قانون تبادلية المصالح في عالم السياسة .

فحسن البنا عندما كان يخرج من مدرسته لينبه ويرشد الناس في الأماكن المختلفة بالقطع لم يكن يقصد أن يخون مصر ، بل كان يقصد تحرير مصر من الاستعباد ، والاستبداد ، ولما تصدى للشيوعية ،ربما كان لا يقصد أبدا ًأن يخدم الرأسماليين بل كان لا يريد لمصر المتدينة أن تغزوها نظرية سياسية لا تؤمن بالله، ربما هذا كان واضحا ً بذهنه ويعمل من أجله ؛ أما إذا تصادف وكان ذلك العمل يصب في مصلحة الغرب الرأسمالي في الوقت نفسه، فهذا لا يعني بالضرورة الجزم القطعي بان حسن البنا كان يعمل لصالح هذا الغرب كعميل أو مقابل المال ... بدليل أنه مات فقيرا ً ...وإنما هو التزامن فقط في الالتقاء غير المباشر للمصالح .... وهكذا الحال بالنسبة لكل الجماعات العربية العاملة في السياسة ، سواء لبست ثوب الدين كآلية تعبئة ، أو ثوب العلم والتقدم ، أو ثوب الوطنية ،أو القومية.....لماذا لا يكون هدفها في الغالب تحقيق وانجاز مصالح لأوطانها؟؟


علاوة على ذلك فإن الدعم الذي قد تحظى به حركة الإخوان المسلمين أو غيرها من الحركات أو الجماعات ؛ من هذه الدولة العظمى أو تلك ، لا يكون دائما دعماً من سيد إلى تابع بالضرورة ، بل إن الداعم في الغالب يدعم مصلحته أولا ً ،عندما يدعم من يـَنـْتـُج عن حركته في مجتمعه دعما ً لتلك المصالح حتى وإن لم يعي المدعوم ذلك . لكن يشذ عن هذه القاعدة ، الحالات التي قد تدخل دائرة الانحراف عندما تـُرجِّح مصالحها الشخصية على مصالح الأوطان .... عندها فقط نكون أمام حالة (خيانة ) ، وليس كل تعاون بين الدول أو بين الجماعات والدول، وأي التقاء عفوي أو غير مباشر في المصالح بين هذه الأطراف بالضرورة هو خيانة . فلا سياسة على مستوى العمل باتجاه الوصول إلى السلطة تخلو من تعاون دولي بشكل أو بآخر ذلك أن هناك تشابك مصلحي في العلاقات الدولية ، حقيقة يحكمها قانون الحتمية. فالدول على كوكب الأرض كالظواهر الاجتماعية في المجتمع، تبدو للملاحظ السطحي وكأنها متعددة ظاهريا ً ومنفصلة عن بعضها البعض شكليا ً ، لكنها في واقع الأمر متداخلة ومتشابكة .إلى درجة أنها تُوجد بعضها البعض وتؤثر في بعضها البعض تبادليا ً تأثيرا ً قد يأخذ شكل تغيير بسيط أحيانا ً أو تغير جدّي أحيانا ً أخرى ، بل وقد يصل هذا التأثير الداخلي التبادلي إلى حد النفي أو الإزالة من الوجود أحيانا ً .

إن من يعتقد بغير ذلك ويتوهم التفرّد والاستقلال الكلي الكامل عن الآخرين هو في حالة غياب عن الإلمام بأبسط مبادئ السياسة بل وأبسط مبادئ وقوانين الحياة مع الآخرين ، سواء في موطنه المحدود أو على كوكب الأرض بعامة وقبل أن ننهي يمنك القول ان ما يحدث في سوريا اليوم يجري ضمن هذا السياق التشابكي للعلاقات بين الدول وشروط هذا التشابك وهذه حقيقة تعصف بمصداقية كل الاتهامات المتبادلة بين الأطراف المحلية المسحوبة إلى هذا الصراع .

أ.د. إدريس عزام

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير