jo24_banner
jo24_banner

الفساد والفاسدون .. الحلقة 4

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

قد يقول قائل : لماذا ننحاز للصلاح والإصلاح , طالما أن الفساد هو الوجه الآخر له ! ؟ وما دام بينهما تكاملية جوهرية ؟! لماذا لا نقف على الحياد إذن , ونترك الفساد يفعل في المجتمع ما يفعله ؟؟
والجواب : إن تكاملية الجوهر بين الصلاح والفساد هي تكاملية على مستوى التكوين البنيوي الوجودي لهما , لكنهما متصارعان على مستوى الأدوار , تماماً كما يتصارع الخير مع الشر ضمن النفس البشرية الواحدة في سعيهما إلى الهدف الواحد نفسه وهو أن يسود الواحد منهما على حساب الآخر ليصبح هو الآمر الوحيد الذي يشكل خواطر هذه النفس وطبيعة الأفعال التي تغري بها وتشجع عليها .

وكذلك الفساد في المجتمع يدفع باتجاه أن يعم ويسود المجتمع على حساب الصلاح والإستقامة (الوجه الآخر له) وذلك باستخدام آليات ومغريات وغيرها . في المقابل تعمل آليات الصلاح وتدفع باتجاه العمل على إعاقة ذلك وقهره لينحسر الفساد أمام الصلاح ويسود الأخير حياة المجتمع كبديل سائد ومسيطر .

إن أفراد أي مجتمع وهم يقفون أمام هذه الحقيقة الوجودية نراهم يتوزعون وبشكل عفوي على أساس السلوك والأدوار الفعلية وعلى أساس عامل القصد والاختيار على فئتين :
فئة تنحاز للفساد بحكم عوامل ومتغيرات موضوعية وذاتية , وفئة أخرى تنحاز للصلاح بحكم عوامل ومتغيرات موضوعية وذاتية مختلفة .


وطالما ان أي مجتمع من المجتمعات هو مكون في واقعه من هاتين الفئتين كحقيقة واقعة ومعاشة , فهذا يعني وجوب أن يكون إدراك ذلك مكوّن أساسي من مكوّنات الوعي والإدراك الفردي والجماعي لدى مفردات وعناصر كل فئة من هاتين الفئتين .


إن تحقق مثل هذا الوعي وذاك الإدراك يتناقض مع حالة أن تسعى كل فئة منهما الى نفي وجود الأخرى وكأنها غير موجودة . بل أن الواقعية توجب على كل منهما أن تقر بوجود الأخرى مع احتفاظها بانحيازها وشعورها بالتناقض معها وظيفة وأدواراً , ضماناً لإستمرارية التدافع الأزلي أو التصاريح بين هاتين الفئتين الى أن يسود الصلاح وينحسر الفساد ليبقى في أضيق الحدود والمجالات .


وهذه حقيقة عبر عنها خالق الكون بقوله : بسم الله الرحمن الرحيم : ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ------) صدق الله العظيم .


ولاشك أن مضمون الآية الكريمة يوحي بوضوح إلى ضرورة أن ينحاز أفراد المجتمع وجماعاته الى جانب الصلاح في مواجهة الفساد , والمقصود بالصلاح هنا هو ما ثبت عبر المسيرة التاريخية للجماعة أو المجتمع بأنه الأنفع لعموم الأفراد أو غالبيتهم عبر ما يسهم به من توفير الأمن , وصيانة الحياة , وتحقيق حاجاتهم المختلفة الأولية والثانوية بأجواء مفعمة بالحرية والشعور بالرضى والإطمئنان .

أما الفساد فهو يرمز الى الحالة المعاكسة لذلك , حيث تصبح ضمنها مصالح عموم الافراد وحاجاتهم الأولية والثانوية مهددة بحيث يغيب عن الغالبية العظمى من أفراد المجتمع الشعور بالرضى ويسود بدلاً منه الشعور بالتهديد والظلم والتمييز , بصرف النظر عن خروج أقلية ما عن نطاق هذا الشعور , التي غالباً ما تكون مستفيدة من الفساد .

ونظراً لخطورة هذه الحالة (الفساد) فقد عملت كافة المجتمعات البشرية على ايجاد آليات ضابطة ولازمة لتقنين هذه الحالة بقصد محاصرتها وابعاد شبحها عن الأفراد والجماعات , وأوجبت الإلتزام بتلك الآليات واحترامها كقواعد فرضت احترامها على الناس كواجب , وكقيمة ملزمة لا تجوز مخالفتها تحت طائلة العقوبة النصية أو العرفية بل والدينية في كثير من المجتمعات .


إن النظرة السطحية للأمور قد تدفع البعض الى التساؤل عما إذا كانت هناك (من خلال هذا المنظور) دعوة الى الرحمة أو التساهل مع الفساد والفاسدين كما قد يبدو من ظاهر التحليل ؟!
والجواب لا , بل دعوة إلى ترشيد وعقلنة التعامل والنظر الى هذه المشكلة , كما سبق أن أشرنا , أما التساهل والانحياز للفاسدين فهذا أمر غير وارد لقناعاتنا وايماننا العميق بمسلمتين هما :
الأولى : مسلمة الثنائية الوجودية التي لا تنكر أن الفساد حقيقة اجتماعية موجودة تمثل بجوهرها الوجه الآخر للصلاح ونقيضه المتحد معه بنيوياً وجوهرياً . ومع سلبيات هذا الفساد الكثيرة على المجتمع فله ايجابيات أو وظائف ايجابية يخدم بها مصلحة المجتمع . فكما أن للخير وظيفة وفوائد يؤديها للمجتمع , فكذلك للشر وظيفة وفوائد قد تكون مدركة احياناً وغير مدركة في أحيان كثيرة , يؤكد ذلك الحقيقة الايمانية التي تؤكد أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق شيئاً عبثاً لكن الناس قد لا يعلمون .


في هذا السياق جاءت نتائج الأبحاث العلمية السوسيولوجية في مجال الجريمة والانحرافات عموماً سواء أخذت شكل فساد أو غيره ؛ لتؤكد أن للجريمة وظائف ايجابية بالنسبة للمجتمع ,كما لها سلبياتها الكثيرة واخطارها على المجتمعات الإنسانية إذا ما عمت وتجاوزت في حدودها وعموميتها نطاقات معينة .

المسلمة الثانية : وهي مسلمة ذات مضمون منهجي علمي ووضعي , تنطلق من أساس يؤكد على أن الفرد الفاعل هو كائن مقهور أمام المجتمع قهراً اجتماعياً كلياً . ومقهور أمام الجماعات الفرعية قهراً جزئياً ومحدوداً , وهذه الجماعات الفرعية قد تكون جماعة الأسرة أو المجتمع المحلي , أو غيرها من الجماعات التي قد تقوم عضوية الفرد فيها على أساس رسمي , وتظل هذه الجماعات هي الأخرى مقهورة أمام المجتمع لا تملك في الغالب حق الخروج على أوامره ونواهيه (إلزامية وجبرية) .


ونعني بقهرية المجتمع للأفراد , إلزام الأفراد واجبارهم على أن يتأثروا بما يضعه المجتمع من حدود , ويحدده لهم من أوامر ونواهي والزامات تشكل قواعد ينبغي الإلتزام بها في كافة نواحي حياتهم وقيود تحدد حركتهم وحرياتهم الشخصية . وتتمظهر هذه القهرية عبر مؤسسات المجتمع المختلفة التي يترابط من خلالها الأفراد مع المجتمع , وذلك على شكل أوامر ونواهي ومثل وتطلعات ؛ بل أن الفرد يكتسب خصائصه النفسية والإجتماعية والذهنية تحت تأثير تلك القهرية الاجتماعية فيظل ضمن الحدود والنطاقات التي ترسمها وتحددها له نظم ا لمجتمع ومؤسساته المختلفة .

وعليه فإن الفرد بخصائصه تلك بل وبميوله واتجاهاته نحو الأشياء والمواقف والأفعال والقيم , إنما يعكس ما قد تم ايداعه فيه عبر القهرية الاجتماعية تلك . فهو من هذا المنظور يبدوا كمرآة يعكس ما يفرض عليه . بل ومجبر على أن يعكس في سلوكه الكلي أو الموقفي إلزامات الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه , لأنه يشكل الإطار الإجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه ويتقولب على أساسه ومقاساته .


وعليه , فالفرد من هذا المنظور يبدوا وكأنه معذور ولو بشكل نسبي عن مجمل أفعاله وتصرفاته , بنفس المقدار الذي يكون فيه إطاره الإجتماعي الثقافي الذي يعيش فيه مسؤولاً عن تلك الأفعال .

ولعل هذه الحقيقة تقف وراء الجهود الدولية الرامية الى دفع المجتمعات إلى أنسنة تعاملها مع المنحرفين من نزلاء السجون وغيرهم , والتوقف عن ممارسة عقوبة الإعدام بحقهم بصرف النظر عن طبيعة الجريمة التي أرتكبها هؤلاء المنحرفون الفاسدون .


إلى هكذا نتيجة توصل علماء الإجتماع المعاصرون بخصوص هذه القضية القديمة التي طالماً أشغلت علماء الكلام المسلمين والفلاسفة والمفكرين .
إن معارضة علماء الإجتماع لإلقاء كل المسؤولية عن الفعل على عاتق الفاعل منفرداً , تعد مخالفة لما جرت عليه العادة في المنظور الديني والفلسفي الإخلاقي .


وهذه نقطة خلاف مشهورة بين رجال الدين وعلماء الإجتماع . إذ يرى رجال الدين أن علماء الإجتماع بمنظورهم هذا يؤسسون الى مسألة الشك بمنطقية وعدالة العقوبة المفروضة على الأشرار في الآخرة – لأنهم (أي علماء الإجتماع) يبررون لهم الشر والخطيئة , وينتقدون عقوبة المضطر المقهور بل ويزاودون على رجال الدين أحيانا عندما يستندون لتدعيم موقفهم إلى القاعدة الفقهية القائلة بأن الضرورات تبيح المحظورات , بمعنى أن لا عقوبة على مضطر وإلاَ ظُلم , فكيف تستوي مع العدل معاقبة المنحرفين في الآخرة وهم كانوا مضطرين لذلك في الدنيا , والله هو العدل ؟

أما رجال الدين فيرفضون هذا المنطق جملة وتفصيلاً , بل يرون فيه خطراً يهدد كيان المجتمع إذا عم وصار عقلية سائدة . فالفرد الفاعل من المنظور الديني مخير بقدر ما هو مسير أو مجبر وقد أودع الخالق فيه الفاصل المميز وهو العقل ؛ للتمييز بين الشر والخير . وبقدر ما هو عاقل بقدر ما هو مسؤول عن أفعاله , يستحق الثواب إذا أصاب والعقوبة إذا أخطأ , ولو كان المجتمع قاهراً للفرد بالمطلق لما ظهر هناك انبياء ومصلحون في تاريخ البشرية , عارضوا مجتمعاتهم منفردين وتمردوا على قهرية المجتمع , بل قهروا أمامهم مجتمعاتهم وهناك من القادة من غيروا منفردين مجتمعاتهم بالكامل.


ونرى أن في كلا المنظورين غلو ومبالغة هي أقرب ما تكون لسوء الفهم . فالفرد الفاعل كما نراه مقهور (في الغالب) أمام المجتمع , وهذا يعني أن هناك إمكانية أمام الأفراد في بعض الأحيان لأن لا يخضعون لقهرية المجتمع , بل قد يعارضونه وينحرفون عن قواعده , إما لغايات إصلاحية خيرة وايجابية كما هي حال المصلحين والقادة التاريخيين على سبيل المثال , أو يكون هذا الإنحراف لغايات سلبية مثل إلحاق الأذى , أو الإضرار بالمجتمع , أو لكسر قواعد المجتمع رغبة في المخالفة والانحراف كما يحدث في بعض الأحيان .


لكنه رغم وجود مثل هذه الحالات , يظل انضباط الغالبية هو القاعدة , والقول بقهرية المجتمع يبني على أساس القاعدة وليس الإستثناء . بذلك نبدو وكأننا بذلك نسير على طريق علماء الإجتماع , لكننا ننفصل عن هذا الطريق قليلاً بعد ذلك .


إذ نرى أن قهرية المجتمع كما نراها هي قهرية ملزمة بالخير كما هي ملزمة بالشر , ملزمة بالانضباط كضرورة لا مناص منها , وملزمة أيضاً بالانحراف كنتيجة تتماهى مع الضرورة على مستوى المصداقية .


فالفرد الفاعل الذي يعيش ظروفاً إجتماعية يسودها الخير والانضباط يخرج ميالاً في الغالب الى الخير , بينما يخرج من يعيش ظروفاً انحرافية واجرامية يسودها الشر , ميالاً الى الشر والانحراف . هذا من جهة .


لكن من جهة أخرى : فإن هذه القهرية الإجتماعية نفسها ملزمة (بالتمييز) بمعنى أنها لا تحول بين الفرد وبين أن يكون مميزاً لأفعاله قبل قرار الاختيار , وإلا إنتفت بذلك صفته الآدمية المميزة له عن الكائنات الحيوانية الأخرى , وتتبعها في الزوال أيضاً صفته الإجتماعية وهي أساس المساءلة الإجتماعية : فلا قوة اجتماعية بإمكانها أن تفرض على الفرد الفاعل أن لا يكون مميزاً فتلك حالة من وظائف الدماغ إذا كان سليماً من الناحية العضوية , معنى ذلك استحالة أن يكون الفرد غير مميز ودماغه سليم غير معتل أو مريض , أما إذا كان الدماغ لا يقوم بوظائفه لهذا السبب أو ذاك , سقطت عن الفرد حكماً المسؤولية الإجتماعية لغياب الأهلية اللازمة لذلك .

من هذا المنظور نرى أن قهرية المجتمع , وإمكانية مخالفتها من قبل الأفراد مسألة مرهونة بمسألتين :
الأولى : مسألة الوعي والتمييز .
الثانية : مسألة العمدية والقصد .
فنحن نرى أن الفرد الفاعل إذا ما توفر له الوعي صار بالضرورة مسؤولاً عن قراراته واختياراته للأفعال , ولا مسؤولية على فاقد الأهلية العقلية لسبب أو لآخر . وهذه بديهية عالمية الإنتشار والسيادة , وتؤخذ في الاعتبار في كافة المساءلات الإجتماعية والمحاكمات الجزائية على الأفعال والجرائم .

أما العمومية فإلى جانب أنها مؤشر على وجود الوعي لدى الفرد الفاعل في الحالات غير المرضِية أو غير المعتلة , فإنها مؤشر على قابلية القهر الإجتماعي للاختراق الفردي في الحالات العادية . فالفعل الانحرافي الصادر عن فرد وهو يتعمد هذا الفعل ويقصده , هو فعل واعي بالضرورة وباتجاهين : وعي بحقيقة أن القهرية الإجتماعية قابلة للإختراق , ووعي بأن الفرد الفاعل يخالف المجتمع و يتقصد القيام بذلك فعلاً لأسباب ضمن إدراكه , فيكون بذلك مسؤولاً عن تصرفاته وأفعاله .


وعلى العكس , فإن غياب الوعي والقصد عن فعل الفاعل يخرجه من دائرة المسؤولية الإجتماعية من هذا المنظور .

وفي بعض الحالات يمكن أن يخرج الفرد الفاعل من دائرة المسؤولية الإجتماعية مع إنه قام بأفعال فاسدة تدينها القوانين والتشريعات ويكون هذا عادة في الحالات التي يستخدم فيها الفرد فعلاً غير قانوني إستخداماً ذرائعياً , أي كوسيلة لتحقيق منافع للمجتمع والآخرين , فالوعي بطبيعة الفعل متوفر وكذلك القصد و مع هذا لا مسؤولية إجتماعية عليه .

مثال : قد يحدث أحياناً أن يطالب أحد العاملين في مؤسسة ما بإصلاح نظام الحماية أو الرقابة في تلك المؤسسة , لكن الإدارة تجاهلت ذلك لأكثر من مرة لعدم قناعتها بمصداقية المطالبة أو لأنهم لا يقدرون خطورة الأمر كما يقدرها ذلك الفرد . فإذا قرَر هذا الفرد اقتحام المؤسسة ليلاً وفتح خزائنها (دون أن يسرق منها شيئاً) ليؤكد للمسؤولين مصداقية الحاجة الى تطوير أجهزة الرقابة , فإن ما قام به يعتبر سلوك فاسد من الوجهة القانونية ويستوجب العقوبة , لأنه دخل المؤسسة ليلاً بأنه فتح أبوابها بطريقة ما وفتح خزائنها , وهذا فعل غير مقبول قانونياً مهما كانت دوافعه وأهدافه , إلا ان المؤسسة قد تعجَل فعلاً بتطوير تلك الأجهزة جراء ذلك , وقد تعاقب (وهذا من حقها) ذاك الفرد على ما قام به , لمجرد مخالفته للقانون وقد لا تعاقبه (لعدم وجود ضرر مادي ناتج عن الفعل) .
إن مثل هذا الفرد قد استخدم الفعل الفاسد أو الانحراف استخداماً ذرائعياً لغايات الإصلاح , وتحقق له وللمؤسسة ذلك .

وإلى النتيجة نفسها تؤدي الكثير من أعمال اللصوص والمجرمين حيث تلفت انتباه الاجهزة الأمنية الى ثغرات موجودة ينفذ منها اللصوص عندما يسطون على تلك الممتلكات أو في القدرات الفنية للأجهزة الأمنية الى خلل موجود سواء في مجال التحصين ضد السرقات أو ضد غيرها من الأنماط الإجرامية أو ضعف في قدرات أجهزة الأمن وكفاءتها , فتعمل هذه الأجهزة على تطوير ذاتها وإزالة نقاط الضعف جراء ما قام به اللصوص .

إن الفرق بين ما قام به موظف المؤسسة الذي ساهم فعله في تطوير أجهزة الرقابة , وما قام به اللصوص , إن الأول فعل ما فعله ليس بقصد السرقة بل بقصد أن يثبت ضعف أجهزة الرقابة كي يحث المسؤولين على تطوير تلك الأجهزة , بينما يفعل اللص ما يفعله بقصد السرقة , الجريمة التي يحاسب عليها القانون . فكان فعل الأول فاسداً قصد من ورائه الإصلاح , وفعل اللص فاسداً قصد من ورائه الإفساد لكنه أدى الى نتيجة ايجابية غير متوقعة (أي ليست ضمن إدراك ومقاصد اللص) . هذا يعني أن النتيجة الإصلاحية الايجابية كانت ضمن إدراك موظف المؤسسة ولم تكن كذلك في حالة اللص , إذ لم تكن ضمن إدراكه ومقاصده .
وإذا ما أردنا التعبيرعن هذه النتيجة بلغة روبرت ميرتون .
يمكن القول أن إصلاح أجهزة المؤسسة كانت وظيفة ظاهرة لسلوك الموظف الذي اقتحم مبنى المؤسسة ليلاً , بينما كانت وظيفة السرقة التي قام بها اللص والتي تمثلت بزيادة يقظة الأجهزة الأمنية وتحصينها وتطويرها لقدراتها ؛ وظيفة كامنة Tolent Function لما قام به هذا اللص دون أن يعي هو هذه الوظيفة أو يقصدها .


الفساد والعقوبة

لقد صار واضحاً أن الفعل الفاسد عندما يحدث , يأتي متناغماً مع حقيقة أن الفساد هو الوجه الآخر للصلاح . وأن الله قد خلق الفساد متحداً من حيث الجوهر مع الصلاح , كما اتضح ايضاً , إن الفاسدين وكل المنحرفين عادة يخدمون المجتمع بانحرافهم وفسادهم رغم ما يلحقونه من ضرر بالغ فيه .... لكن هل معنى هذا ان على المجتمع أن يسقط عنهم المسؤولية , فلا يعاقبون ؟؟ .

إن هذه القضية تشتمل على جانبين يمكن أن نعبر عنهما بطريقة استفهامية :
القضية الآولى : هل الفاسدون يخدمون المجتمع وينفعونه فعلاً بفسادهم ؟
القضية الثانية : إذا كان ذلك كذلك ؛ فهل من المنطق إلقاء المسؤولية الإجتماعية على الفاسدين ومعاقبتهم على فسادهم طالماً أنهم يخدمون المجتمع ويعملون على تقويته وتدعيمه ؟؟؟ !
بخصوص القضية الأولى , نرى أن الفاسدين قد يخدمون المجتمع بما تؤدي إليه أفعالهم الإنحرافية الفاسدة من تحذيرات وإنذارات للمجتمع فتزيد من قوته ومناعته أمام الإنحراف , في الوقت الذي يسيئون فيه الى هذا المجتمع ويعملون على إلحاق الضرر والأذى به عن وعي وقصد , وقد جرت العادة في كل المجتمعات الإنسانية أن تكون المكافأة والجزاء فقط على الفعل الصادر عن الفاعل عن وعي وقصد , وإلا قلت المكافأة أو الجزاء أو انعدمت وطالماً أن ما قد يستفيده المجتمع من فساد الفاسدين قد يأخذ شكل افعال واجراءات تطويرية يقوم بها الآخرون في المجتمع نفسه وليس الفاسدين . وبتعبير آخر , فلكي يقع الفعل ضمن دائرة المساءلة الإجتماعية وآليات من جزاءات ومكافآت , يشترط أن يكون هذا الفعل مقصوداً وواعياً , هذا ما جرت عليه الأحوال بكل المجتمعات الإنسانية . وطالما أن فائدة التي تسبب بها الفاسدين والمنحرفين لمجتمعاتهم تحدت كوظيفة كامنة لأفعالهم الفاسدة وكنتيجة غير مباشرة أومقصودة , فهذا يعني أن هذه الفائدة لم تكن ضمن وعي الفاسدين وإدراكهم ومقاصدهم , وعليه فلا مكافأة لهم عليها , ولا عقوبة في حالة ما إذا كانت تلك النتيجة ضارة للمجتمع وغير مفيدة في حين تتوفر في أفعالهم الفاسدة ذاتها التي صدرت فعلاً عنهم بوعي وقصد , كل الشروط الموجبة للعقوبة على تلك الأفعال . فالمجتمع لا يستطيع أن يعاقب مثلاً الفاسدين : إذا ما قررت بعض الجهات الدولية عدم الموافقة على تقديم فروض مالية أو مساعدات للدولة لوجود الفساد فيها . فالفاسدون عندما قاموا بأفعالهم لم يهدفوا الى دفع تلك الجهات الدولية لأن تقرر ما قررته . بل ربما لم يفكروا بذلك أبداً. نخلص إلى القول بأن الإنحراف عموماً والأفعال الفاسدة بذاتها على وجه الخصوص هي أفعال تستوجب المساءلة الإجتماعية القانونية بصرف النظر عن الفوائد والايجابيات الإجتماعية التي قد تنتج عنها بالنسبة للمجتمع , بشكل غير مقصود غالباً ومقصود في بعض الأحيان (كما في حالة الموظف وتطوير الأجهزة الرقابية) .

ونظراً لتداخل الأبعاد الفلسفية والمنطقية والإخلاقية والقانونية في تحديد مفهوم الفساد ومواقف المجتمعات الإنسانية منه, فقد استقر الحال على أن وضع كُلّ مجتمعٍ من المجتمعات الإنسانية قواعد تمثل مسارب يسير فيها وعلى هديها الأفراد دون زيغ وانحراف حتى وأن كان ذلك الانحراف لغايات الخير حسب معاني الأفعال بأذهان الفاعلين .


وما دام فعل الفاعل يصدر مراعياً لتلك الحدود والقواعد أُعتبر سلوك صالح وإلا اعتبر المجتمع سلوك فاسد ومنحرف إذا حاد عنها وانحرف .
وكما حدد قواعد ناظمة للأفعال ومقيدة لها بحيث صار صلاح تلك الأفعال نسبياً بمقدار ما تأتي متطابقة مع تلك القواعد من جهة , وضع من جهة أخرى وحدد عقوبات نصية أو عرفية تعاقب المخالفين لتلك القواعد . فتغدوا مخالفة الأفراد وانحرافاتهم وكأنها عدم طاعة لأوامر المجتمع ونواهيه يستحق من يتورط فيها العقوبة كجزاء , ولا يتوقف المجتمع ولا يعنيه كثيراً الوظائف الكامنة وراء أفعال الأفراد حتى وأن أدَت إلى خلاف مقاصد الفاعل سواء كانت تلك المقاصد سلبية أو ايجابية خيرة أم شريرة .

والمجتمع إذ يعاقب الفاسد على فساده لا يفعل ذلك لخطورة الفساد بذاته على وجود المجتمع , بل لأنه يمثل خروجاً للفاسدين على أوامر المجتمع ونواهيه (قواعده) ؛ التي طالماً درَبهم على الإلتزام بها بصورة مباشرة وغير مباشرة عبر عملية التنشئة الإجتماعية ومؤسساتها المتعددة .
كما أن المجتمع وهو يعاقب على الفساد ليدرك من خلال وعيه الجمعي العام الذي يتشارك فيه كافة أفراد المجتمع (أو هكذا يفترض مع فروق في الدرجة تبعاً لهذا الظرف الشخصي أوذاك) أن بعض الأفراد قد ينخرطون في الفساد بقصد أو بدون قصد لكنه في كل الحالات لا يملك إلا أن يعاقب على ذلك , والا اضطربت الحياة الإجتماعية وتخلخلت بنى المجتمع المنظمة وفقاً لمحدودية مدارك البشر العاجزة بطبيعتها عن أن تحيط بكل التفاصيل ذات الصلة بفعل أي فاعل , والتي قد يتوفر في بعضها للفاسدين والمنحرفين أو المجرمين تبريراً معقولاً لأفعالهم الفاسدة ويحضرني في هذه المناسبة المقولة الشهيرة للفيلسوفة شيلر التي تقول "لو عرف الإنسان كل شيء لعذر كل أحد" .


لكن هذا المنطق إن كان هو المطلوب كأساس لتقييم الأفعال الإجتماعية من جهة , فهو من جهة أخرى يرتب أو يلقي بمسؤولية جد كبيرة الى درجة الاستحالة على كاهل المجتمع تتمثل بضرورة الإحاطة بكل شيء له علاقة بأي فعل قبل الحكم بصلاحه أو فساده لإقرار العقوبة عليه أو نفيها ؛ وهذا ضرب من ضروب المستحيلات حتى الآن بمعيار المعارف والقدرات المحدودة لبني البشر التي يؤكد محدوديتها قوله تعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) . وشاهدنا على ذلك , إن العلم ما زال واقفاً حتى الآن عند حدود الأسباب المباشرة بمعنى العناصر المتزامنة مع الحدث أو الفعل كأساس لتصنيف الأفعال إلى أسباب ونتائج مع إنه قد لا يكون لتلك العناصر أية علاقة بالفعل سوى صدفة التزامن في الوجود في الموقف . وبالقياس فإن المجتمعات البشرية لا تملك إلا أن تقف عند حدود القواعد الناظمة لأفعال الأفراد وتحديدها بدقة من حيث الكم والكيف وإلزام الأفراد بحدود هذه القواعد فقط وعلى أساس ذلك تصنّف أفعالهم إلى أفعال فاسدة أو صالحة .

في ضوء ما سبق نصل إلى تقرير حقيقة أن هناك إعتباطية في منطق علماء الإجتماع بقدر ما فيه من دوجما طيفية . فهم يعتبرون انحراف الفرد يمثل إنعكاساً آلياً , وسلوكاً عفوياً , يعكس قهرية المجتمع وإلزاميتها له , وكأن الفعل الإنحرافي يصدر عن الفرد لا إرادياً , وهذا منطق فاسد من أساسه , إذ يستحيل عقلاً أن يتصرف المنحرف عندما يتصرف وهو فاقد للوعي والإرادة , وإلا كان في حالة عقلية مريضة أو غير سليمة , وفي هذه الحالة لا مسؤولية إجتماعية يرتبها عليه المجتمع ولا الدين , ففي المنظور الديني هناك القاعدة الفقهية التي تقول (إذا أخذ (الله) ما وهب اسقط ما أوجب) .
والحال نفسه في المجتمع , حيث لا مسؤولية دون أهلية عقلية وادراكية نفسية , فهذه الشروط إذا توفرت للفرد , استحال معها غياب الإرادة والوعي لديه , أعني وعي الفاعل بفعله وتقصَده وإرادته أن يقوم به . وبذلك يستوجب المساءلة عن فعله سلباً أو ايجاباً حسب طبيعة ذلك الفعل .
ونرى أن هذه نقطة تلتقي عندها النظرة السوسيولوجية مع النظرة الدينية نحو العقوبة وشروطها الموجبة , على الانحراف عموماً وعلى الفساد بشكل خاص .

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير