اشكالية المؤسسات غير الحكومية
م. احمد سمارة الزعبي
نشأت شبكة المنظمات الشعبية في مناخات هيمنة البورجوازية على مقدرات الدولة بعد الثورة الصناعية، وفيما بعد، وفي ظل الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي، تطورت واتسعت هذه الشبكة لتصل الى غالبية الدول العربية، فنشطت اّنذاك اتحادات العمال والفلاحين والمراة والطلبة والشباب، ولعبت دورا هاما في الدفاع عن حقوق أعضائها وحماية مصالحهم، لا بل زادت على ذلك بمساهمتها في العديد من معارك الاستقلال وما بعدها، وقد غلب على هذه المنظمات الشعبية الطابع القومي واليساري، بسبب تصدر القوى القومية واليسارية معارك التحرر من الاستعمار ومرحلة بناء الدولة، كما رافق هذه الشبكة انطلاق العديد من الجمعيات واللجان الخيرية ذات الطابع الديني كلجان الزكاة ودور حفظ القران ودور رعاية الايتام.
كان لضعف الدولة وغيابها عن دورها في البناء والتنمية العامل الأبرز في ازدهار هذه الظاهرة، التي نمت واتسعت في النصف الثاني من القرن الماضي، والتي شهدت ايضا تنامي نشاط النقابات المهنية، التي عبرت عن هموم ومصالح الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية، وشكلت رديفا للاحزاب التقليدية في معركتها من أجل تعزيز الاستقلال والتحرر والتنمية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتراجع دور الاحزاب القومية واليسارية، وفشل الدولة القطرية في انجاز مشروع التحديث والتنمية، برزت ظاهرة المنظمات غير الحكومية على شكل جمعيات ونوادي ومراكز دراسات وغيرها، وقد ركزت هذه المنظمات على موضوعات جزئية محددة، كالبيئة والطاقة وحرية الصحافة وحرية المراة وحقوق الطفل الى اخر ما تتداوله هذه المنظمات المدعومة والممولة من جهات داخلية وخارجية، والتي أخذت (اي هذه الجهات) بالبحث عن شركاء خارج البنى التقليدية للدولة، بعد خيبة الامل من انهيار تجربة صناديق التنمية الرسمية، وايضا كشكل من اشكال النفوذ فيما يسمى بالديبلوماسية الشعبية في دعم مؤسسات المجتمع المدني.
تواجه هذه المنظمات غير الحكومية إشكالية في الانفتاح على المجتمع، نظرا لنخبوية تكوينها، ومحدودية موضوعاتها نظرا لمتطلبات الجهة الممولة، وعدم ملامستها للهموم الحقيقية لغالبية الناس، بالاضافة لعدم امتلاكها معا تصورا شاملا للتنمية والتحديث، مما افقدها امكانية ملء الفراغ الذي أحدثته الدولة نتيجة غيابها وضعفها في مواجهة استحقاقات عمليتي البناء والتنمية.
تفكيك وتراجع دور المنظمات الشعبية، جاء في سياق تراجع البنى السياسية والاجتماعية التقليدية، وتراجع المنظومة القيمية والثقافية، وما رافق ذلك من اعادة احياء بنى ما قبل الدولة كالعشائرية والجهوية والطائفية، حتى في الدول التي قادتها الاتجاهات القومية واليسارية، لم تخل من تنامي هويات دينية كالسنية والشيعية والمسيحية، وهويات قومية كالكردية والتركمانية والأمازيغية.
الرقابة الرسمية على هذه المنظمات، والعمل باتجاه انتاج منظمات وطنية، تحظى بالرعاية والدعم المالي الوطني، من خلال مشروع ثقافي وتنموي شامل، يمتد عبر كل المساحات الوطنية، ويحتمل التعدد والاختلاف على قاعدة البناء، هو الطريق الاّمن للعبور (مع هذا النوع من المنظمات) مرحلة التوترات الداخلية والاقليمية بأقل الخسائر الممكنة.