jo24_banner
jo24_banner

النموذج الاسباني في التحول الديموقراطي

م. احمد سمارة الزعبي
جو 24 : يستطيع العرب ، كما المسلمون ، أن يرددوا " يا زمن الوصل بالأندلس " مدى الدهر ، ويستطيعون أن يتغنوا بماضيهم العتيد كما يشاؤون ، لكن الأحلام لن تساهم في تنمية مجتمعاتهم ، ولا بتحقيق أمانيهم في الوصول الى الدولة الديموقراطية القوية العادلة ، لكنهم في الاندلس ، وفي اسبانيا ككل ، استطاع الاسبان الوصول لهذا الهدف ، عبر تجربة ذاتية توافقية ، قاطعين مع الماضي ، بما يحمل من ظلم وتسلط وديكتاتورية ، وما شهد من حرب أهلية راح ضحيتها الأّلاف ، هذه التجربة التي شارك فيها كل الفعاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني ، حتى المؤسسة العسكرية والمؤسسة الدينية ، وبقيادة ومبادرة من الملك خوان كارلوس نفسه .

اذا كانت اسبانيا لا زالت تشكل ركنا مهما في الوجدان العربي ، فلماذا لا تكون تجربتها الحديثة في التحول المنظم ، من حقبة الاستبداد الى الديموقراطية " نموذجا يحتذى " ، خاصة مع تشابه وتجانس كبير بين العقلية الاسبانية والعربية ، لا بل وتشابه الظروف الاقتصادية والاجتماعية ، خاصة ذلك التشابه بين دور المؤسسة الامنية والبعد الديني المسيطر في كلا المنطقتين .

كانت اسبانيا قبل خمسين عاما ، دولة فقيرة استبدادية هامشية ، الا من رقصة الفلامنكو ومصارعة الثيران وديكتاتور اسمه " الجنرال فرانكو " ثم نجحت وقفزت الى مصاف الدول الاوروبية ، كما لو انها ولدت من جديد ، لقد قاد النظام بنفسه عملية اصلاح سياسي طويلة ، انتهت الى تكريس نظام ديموقراطي قوي ، وبدأت تلك العملية بعد تزايد الضغوط الشعبية والمطالب الداخلية للتغيير في نهاية عهد فرانكو ، التي اسفرت اولا عن الافراج عن كافة المعتقلين السياسيين والتصالح مع احزاب المعارضة وتخفيف القبضة الامنية في البلاد .

وضع الملك على رأس الحكومة شخصية ليبرالية " اودولفو سواريز " لتجمع الحكومة وزراء تتوافق عليهم كل من قوى النظام القديم والاصلاحيين من داخل النظام من جهة ، وقوى المعارضة من جهة اخرى ، اي حكومة توافقية ، وكان من أهم ما حققته تلك الحكومة ، وضع قانون انتخاب جديد ، واستفتاء شعبي على برنامج الاصلاح السياسي ، وأجريت انتخابات بموجبه ، أفرزت حكومة أغلبية برلمانية برئاسة سواريز ، وتنازل الملك في المقابل عن الكثير من صلاحياته ، لصالح البرلمان والحكومة والقضاء ، من أجل تكريس ملكية دستورية ديموقراطية .

ان الانتقال الديموقراطي في اسبانبا لم يتم بانقلاب او ثورة ، بل بتغيير النظام السياسي ومؤسساته من خلال الاشتباك السلمي مع النظام نفسه ، في ظروف معقدة للغاية ، انتهت بالتأسيس لشراكات سياسية حقيقية ، كانت غائبة ، وهي الشراكات التي لم تكن قسرية او اقصائية ، وهو ما مكّن المجتمع من التوافق على قواعد التغيير والانتقال ، وهذا التوافق لم يكن له ان يتم لولا التنازلات الكبيرة التي قدمها كل طرف ، والتي بدونها لم يكن ممكنا له ان يتحقق ، وفي دلالة بالغة الأهمية ، شهدت عملية الانتقال نحو الديموقراطية ، تحولا اخر طال القوى والاحزاب السياسية نفسها ، مكّنت من ذلك التوافق ، فلم يعد أحد يمتلك الحقيقة المطلقة ، ولم يعد ممثلي النظام ولا المعارضة ما كانوا عليه قبل سنوات .

ان الاحزاب التي تنطلق من امتلاك الصواب المطلق ، وما تدعيه من الدفاع عن مصالح الجماهير او تمثيله ، دون القيام بمراجعة هذه الفرضيات ، والقيام باصلاحات بنوية داخلية ، لخلق حالة من التوازن والتوافق كشرط اساسي للاتفاق ، لا يعدو كونه " خرف أيدولوجي " و " تضليل سياسي " لا يمكن ان يحقّق اي انتقال فعلي نحو الديموقراطية ، بل انه سوف يكون منتجا للاستبداد حتما .

هناك عوامل أساسية مكّنت الاسبان من تحقيق التحول الديموقراطي السلمي ، على رأسها الملك خوان كارلوس ، ذلك الملك الشاب الذي لم يفكر بامتيازات او سلطات شاسعة ، وانما شده حلم عظيم ان يرى اسبانيا في مصاف الكبار في اوروبا ، ونخبة سياسية واعية تمتلك طموحا وطنيا اكبر بكثير من طموحاتها الشخصية والفئوية ، وطبقة وسطى عريضة قادرة على تحمل الاثار السلبية لهذا التحول ، ومدركة لحجمها ودورها ونفوذها في إنجاح التغيير المنشود ، وبيئة حاضنة لهذا الانجاز الكبير تمثل في دول اوروبا الغربية ، التي دعمت هذا التحول وساهمت بالتسريع في تحقيق هذا الانجاز .
تابعو الأردن 24 على google news