2024-08-28 - الأربعاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

على نفسها جنت براقش

ا.د. إدريس عزام
جو 24 :

قيل ويقال أن الانسان حيوان ناطق ؛ وهذا صحيح . فله لسان وأسنان وشفاه وحبال صوتية وحنجرة , وهذه كلها آليات خلقت كي تساعده على الكلام والنطق . والناس على هذا الأساس فئتان فقط أزاء استعمالهم لهذه الآليات : فئة غير ناطقة وصامتة , وفئة ناطقة متكلمة .


أما الفئة الأولى فشريحة واحدة لا تحتاج إلى تفصيل .


والفئة الأخرى تنقسم إلى فئتين . فئة الذين ينطقون ويتكلمون فقط ؛ لأن آليات الكلام عندهم لا بد أن تؤدي وظيفتها الطبيعية دون أية أبعاد أخرى تتجاوز ذلك لها مساس مثلاً بأهداف أسمى من ذلك , ولأنهم منشغلون بما لا ينشغل به الناس , ويسبحون في بحور الذات ودوافعها الدنيا , وربما لهؤلاء عذر من جهل أو مرض أو خلافه .


وفئة الناطقين الذي لا عذر لهم من جهل أو مرض أو خلافه إذا صمتوا وهم المثقفون الذين تقع على عاتقهم مهمة بل واجب أن يتحدثوا ويتكلموا بما يمكن أن يحسن أحوال المجتمع ومعيشة الناس من حولهم ولا معيار غير هذا لاستحقاقهم صفة "مثقفين" فالمثقف الحقيقي منحاز بالضرورة للنقد , وإن صمت فذلك وصمة عار عليه قد تقف به على حافة الخيانة , خيانة نفسه أولاً , وخيانة مجتمعه بعد ذلك .

إذن لابد للمثقف العارف أن يتكلم بالتحسين , وهذا لا يكون فقط باقتراح المُحسنات , بل أيضاً بالتبصير والتنوير اللازمين لتجنب الأخطاء وإزالة العيوب ومظاهر المرض والاعتلال الاجتماعي والثقافي ... وهذا هو النقد . فالحديث لا يكون ايجابياً وبنّاء ويسهم في التحسين إلا إذا كان نقدياً . فنحن لا نستطيع اقتراح أو إضافة أمر حسن مأمول في مكان ما أو موضع ما أو موقف ما , إلا إذا كان القائم في ذاك المكان أو الموضع أو الموقف غير حسن واثبتنا ذلك ؛ أو إذا كان جيداً ونريده أن يصير أجود بالمعايير الموضوعية , وهذا لا يكون إلا بالنقد .

كما إننا لا نستطيع إزالة الأخطاء وإزالة العيوب من واقع ما , إلا إذا تناولنا تلك الأخطاء والعيوب بالتشريح والتوضيح وبيان أبعادها السلبية وخلافه .. وهذا أيضاً لا يكون إلا بالنقد .


نخلص إلى القول : أن النقد وليس غيره هو مفتاح تحسين المجتمع وتطويره , وقديماً قيل : المثقف الحقيقي ناقد بالضرورة , والناقد الحقيقي مثقف بالضرورة .


فالجاهل من طبعه أن يكون قانعاً مادحاً ومنافقاً , ليس بأمثاله تبنى المجتمعات . فهو بسكوته عن قصد أو جهل يؤسس لركود المجتمع وفساده وتحلّله . وتبلغ الطامة أوجها إذا ما اختلط مفهوم السكوت هذا بمفهوم الولاء والإخلاص بل إن الطريق إلى الهاوية تكون قد فتحت أمام بعض المجتمعات وتبلغ الطامة الكبرى أوج أوجها إذا ما اختلط مفهوم النقد لدوافع مسيّسة , بمفاهيم خاوية منحوتة بخبث مثل عدم الولاء أو الشغب , وعدم الإخلاص , وغياب الانتماء ....


وخلاف ذلك من المفاهيم الجوفاء الكاذبة التي لا تدل إلا على جهل أو نفاق مؤذ رخيص .

إن الحكمة تقضي بأن يبني المجتمع الرشيد آماله على فئة المثقفين الناقدين من بين فئات البشر الناطقة فيه ؛ حتى وإن كان في ذلك تضحية بشيء من الاستقرار النسبي للمجتمع ؛ الذي لا ينبغي أن يكون مقدساً .


إن الاستقرار إذا طال , صار ركوداً , والركود إذا طال صار تعفناً وفساداً ينتهي إلى تفكك وتحلل . وكما يصح ذلك في حالة الجسد إذا ركد طويلاً بلا حراك مات , وإذا مات تفكك وتحلّل , يصبح أيضاً في حالة المجتمع إذا ما استقر طويلاً وركد .

إن غياب الحكمة والتبصر والجهل بالديناميات الاجتماعية الفاعلة النشطة والمؤثرة بأحوال الناس ومجتمعاتهم تغري بعض المجتمعات غير الرشيدة بأن تبني آمالها على بعض قواها الإجتماعية الداعمة للركود المؤدي بالنتيجة إلى التعفن والفساد . و ذلك بحجة لا علاقة لها بالحكمة والتبصر وهي الحفاظ على النظام العام في المجتمع واستقراره , فذلك فهم مغلوط لمفهوم الاستقرار , واختيار مغلوط لأساليب تحقيقه . بل ويبلغ غياب الحكمة وربما الجهل مداه في مثل هذه المجتمعات إذا اختلط مفهوم النظام العام في المجتمع G.S.O بمفهوم أمن أي نظام من انظمة المجتمع و استقراره كالنظام السياسي مثلاً .


ذلك أن الفرق كبير بين هذين الأمرين . إذ أن لكل نظام اجتماعي كالنظام السياسي (وهو الأهم) آلياته الخاصة التي يحافظ بها على أمنه واستقراره , يتربع على قمة هذه الآليات دون منازع آلية الأنسنة وآلية العدل . فالأنسنة نأي عن الاستغلالية والقسوة والاستكبار , والعدل كقيمة معتبرة وسلوك ناجز .
أما النظام الإجتماعي العام في المجتمع فأمره مختلف وآليات الحفاظ على استقراره مختلفة ومتنوعة , وتتربع على قمة هذه الآليات آلية التشاركية في القرارات , ونواتج هذه القرارات وثمارها الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية ...الخ .

وبالإحالة إلى واقع الحال في المجتمعات العربية , يمكن القول : أن غياب الحكمة والتبصر عن النظام الرسمي العربي , والجهل بأشكاله المختلفة وأنماطه , قد ارتبط (بشهادة التجارب العربية ) بالخلط بين المفهومين : مفهوم النظام العام ومفهوم النظام السياسي , بل ان النظام السياسي واستقرار هذا النظام ودوامه صار هو الهدف الوحيد المحوري والمركزي في ذهنية المخططين السياسيين والتنفيذيين العاملين في إدارة الدولة العربية وأجهزتها الأمنية والعسكرية المختلفة , ولو على حساب الأنسنة , والعدل , والتشاركية الشعبية وحتى يتحقق ذلك تصرفت طبقة السلطة بطريقة وضعت المجتمعات العربية ضمن فئة المجتمعات غير الرشيدة ( كدول ) وتعيسة الحظ والأقدار , حيث اضطرت طبقة السلطة إلى أن تعتمد على قواها غير الناطقة ولا الناقدة , الداعمة للركود والتحلل والفساد , وذلك لقيادة مفاصل الحياة وتسيير شؤون الدولة والمجتمع , فحتى يظل النظام السياسي مستقراً بمنظورهم السطحي كان القرار أن يتصدر لقيادة مسيرة المجتمع ؛ القوى و الفئات الداعمة للركود , واقصاء الفئات الفاعلة الناقدة لأنها وفق ذاك المنظور تهدد الاستقرار , بسبب تطلعها الدائم إلى تجاوز الواقع المستقر .

أما النظرية التي اعتمدت لتطبيق هذه السياسة عملياً , فكانت نظرية " الموالاة – الكفاءة " فعلى أساس هذه النظرية فُتح المجال واسعاً أمام الأجهزة الأمنية كي تتحكم بعملية التصنيف والانتداب إلى مراكز الدولة المختلفة لأن تصنيف أفراد المجتمع إلى موالين و إكفَاء , يحتاج إلى معلومات لا تتوفر إلا لدى تلك الأجهزة , فانشبت أظافرها بتلابيب الدولة مدفوعة بغريزة طبيعية وهي حب التسلط والاخضاع , وهي الغريزة التي عادة ما تكون مسيطرة على الأفراد في المجتمعات المتخلفة والنامية بحكم أنها أقرب نسبياً إلى حالة التوحش التي عاشتها البشرية في مراحل ما قبل الحضارة, إذا ما قورنت بالمجتمعات المتقدمة الصناعية الحديثة .

أخذت الأجهزة الأمنية في المجتمعات العربية على عاتقها تطبيق هذه النظرية نيابة عن طبقة السلطة . فتم إقصاء القوى الناطقة الفاعلة الكفؤة عن المجالات السياسية والإجتماعية والإقتصادية وتصدرت لقيادة هذه المجالات وغيرها , القوى الساكنة غير الناطقة المتمتعة بميزة القناعة و الرضى عن الواقع القائم والقبول به , ولا تسعى إلى تغييره ولو لغايات التحسين , وأطلقت على هذا المسلك السلبي صفة أو مفهوم (الموالاة) والمقصود للنظام السياسي وليس للمجتمع بالضرورة , أو الوطن .


كانت نتيجة هذه السياسة وتطبيقاتها نتيجة غير محسوبة , ففي الوقت الذي اعتقدت فيه الأجهزة المشاركة بتنفيذ هذه السياسة وعلى رأسها الأجهزة الأمنية ( التي صارت صاحبة القرار الأول والأخير في تصعيد الأفراد أو تهميشهم عبر مسيرة المجتمع ) أنها أبعدت القوى أو الفئات الناطقة الناقدة عن المشاركة بقيادة الدولة والمجتمع و أراحت بذلك النظام السياسي ودعمت استقراره العام, ألا إن هذه الجهات وتلك الأجهزة قد غاب عنها البعد الآخر لما قامت به ؛ وأعني به ما يمكن أن تقوم به هذه الفئات المهمَشة والكفؤة من دور في مجال توعية الناس وتعبئتهم أو حشدهم ضد النظام السياسي , مستغلة بذلك تعاطف الناس عادة مع كل من يتعرض للأذى والتهميش من السلطة إذا كان كفؤاً بنظر الناس .


وهذا ما حصل بالضبط . إذ قامت تلك القوى الفاعلة بعد اقصائها عن مراكز القرار وقيادة الدولة بتنبيه الناس بأسلوب سرّي أحياناً , وعلني أحياناً أخرى , إلى ما ينتظر أبناءهم في المستقبل من تهميش واقصاء رغم ما يفعلونه وكل ما ينفقونه من أموال لتأهيل هؤلاء الأبناء . لقد ساعد ذلك مع الزمن على تعميم الفهم وزيادة الوعي لدى الناس , ليتحول هذا الوعي مع الزمن إلى خوف خاص لدى الأفراد والأسر على مصير الأبناء ومستقبلهم وخوف عام على المجتمع جراء غياب الكفاءة للمتصدرين لقيادة مسيرته , من الفئات الصامتة وغير المؤهلة في الغالب إلا بمؤهل الموالاة المزعوم المنسوب إليهم بفضل غياب القدرة على الكلام أو النقد أو بفضل عامل الوراثة من أسلاف صامتين مجرّبين .

إن ما قامت به الفئات الكفؤة المهمَشة قد عمل على إيقاظ الوعي المجتمعي العام , بأسباب المشاكل التي يعانون منها في مجتمعاتهم فزاد ذلك من الاحتقان النفسي والجاهزية للمقاومة . التي عبّر عنها الناس من خلال الثورات التي اندلعت أخيراً في الشوارع والميادين العربية .


إن ما سبق يوضح الدور الكبير الهام الذي قامت به الأجهزة الرسمية العربية في دفع الناس إلى الثورة , كنتيجة لم تخطط لها لكنها كانت حتمية غابت وتغيب عادة عن أذهان المخططين من ذوي البعد الواحد , فاستحقت بذلك أن يُطبّق عليها المثل القائل " على نفسها جَنَت براقش " .

تابعو الأردن 24 على google news