غرور السلطة وعنادها
فقد سمعت الشعوب العربية من أقصاها إلى أقصاها , من بعض رؤوس طبقة السلطة من يقول بأنه قد أعد نفسه لمنازلة الولايات المتحدة الأمريكية (إذا نازعته سلطاته المطلقة الاستبدادية) ومن يقول بان استقرار إقليم الشرق الأوسط وربما العالم رهن باستقراره هو على رأس الدولة والنظام السياسي الاستبدادي , وكأن نظامه صار هو مركز العالم ونقطة الارتكاز له ... وسمع العالم من خرج من هؤلاء بتصريحات يفهم منها وكأنه يتهم العالم كله بعدم الفهم , لأن هذا العالم , قد عجز عن أن يدرك خصوصية نظامه واختلافه عن أي نظام آخر في المجتمعات العربية الأخرى . مع (أن تلك الرقعة من ذلك الثوب ) على رأي المثل الدارج .
إذ لا فوارق تذكر بين طبقات السلطة في المجتمعات العربية إلا بدرجة الفساد وكميته وأنواعه الذي اقترفته كل طبقة من هذه الطبقات مقارنة بما اقترفته غيرها ... أما النهج السياسي الاستبدادي فواحد , والروح التسلطية فواحدة , واعتماد سياسة الإخافة والترويع لضمان الولاء والطاعة فواحدة (مع فروق طفيفة لصالح بعض الأنظمة السياسية العربية التي كانت تعطي مساحة متواضعة لحرية الرأي , كالأردن ومصر ودولة الإمارات ) , وكذلك النهج اللامحدود لتشييد السجون والمعتقلات بدلاً من الجامعات الحقيقية ومراكز البحث العلمي الحقيقي فواحدة , وسياسة تحويل الناس إلى حملة مباخر ومطبلين ومداهنين ومنافقين واحدة , وسياسة معاداة الكفاءات وتحويل الكفاءة إلى تهمة ومأخذ سياسي , وتهميش الأكفاء وتقريب من لا يماثلونهم في الكفاءة بل وأحياناً تقريب الأراذل ودفعهم للواجهة وقيادة الركب , فواحدة , واسلوب السطو على المال العام والممتلكات العامة للدولة بأدوات قانونية وغير قانونية وبيع مقدرات الأمة والمجتمع لشريك مجهول الهوية (أو على الأقل غير معروف للمواطنين) فواحدة , والنزول بأبناء المهمشين إلى مرتبة الأقنان والعبيد ودفعهم لأن تجرى على ألسنتهم كلمة "سيدي" (بتكسير السين وتسكين الياء) ودولتك , وعطوفتك , ومعاليك , وهم يخاطبون رؤوس طبقة السلطة وكأنهم سادة يتحكمون بعبيد ... فواحدة .
لقد باتت الفروق واضحة للعيان , بين حياة راغدة تعيشها طبقة السلطة من جهة , وحياة بائسة لا حاضر لها ولا مستقبل تعيشها الطبقات المهمّشة من جهة أخرى . ولقد لعبت وسائل الاتصال الدور الهام في إشاعة هذه الحقيقة وإشاعة الكثير من سلبيات النهج المتبع من قبل طبقات السلطة , وكان في مقدمة وسائل الإعلام تلك , قناة الجزيرة التي كانت المبادرة في إزاحة الأقنعة عن وجوه طبقة السلطة وأفعالها , ومن الإنصاف أن تحفظ الطبقات الشعبية هذا الجميل لتلك القناة , وبخاصة البرنامج الموسوم ب " الاتجاه المعاكس " الذي كان له دور مشهود في إيقاظ الوعي لدى الشعوب العربية وكان للإعلامي العربي فيصل القاسم الدور الحاسم في حفز الناس إلى الشجاعة في القول والمصارحة وذلك كبادرة لا سابق لها في مسيرة الإعلام العربي المسموع منه والمرئي والمقروء منذ بداية الاستقلال وحتى اليوم .
لقد شكلت هذه الحقائق بعد أن تكشفت في المجتمعات العربية , خبرة معرفية مشتركة بين أفراد الشعب من ابناء الطبقات المهمشة , وصارت عنصراً جامعاً يجمع بين شتاتهم على اختلاف فئاتهم العمرية والنوعية , واختلاف أنماط معيشتهم وأماكن إقامتهم واختلاف مهنهم وطبقاتهم المقهورة , وجديتهم الحركية في مواجهة طبقة السلطة .
وبذلك اكتملت مقومات الحركة المضادة لطبقة السلطة , التي تفجرت في المجتمع التونسي أولاً , ثم في المجتمع المصري فاليمني فالليبي , وفي المجتمع السوري ... وهكذا . فخرجت الطبقات المهمشة إلى الشوارع والميادين تحت شعار مكافحة الفساد والإصلاح أو الإصلاح بمكافحة الفساد وبقيادة الفئات الشابة بشكل رئيسي .
لقد فاجأت حركة الشباب العربي وخروجها على السلطة , طبقة السلطة , فصارت الأخيرة تتخبط في ردود أفعالها بعد أن أخذتها الدهشة لحدوث ما لم يكن متوقعاً أن يحدث , إذ ساد الظن لدى مكونات هذه الطبقة أن الشعوب العربية قد نامت وإلى الأبد , فكانت حركة الشباب الاحتجاجية أولاً ثم الثورية بعد ذلك , حركة صادمة لطبقة السلطة .
حاولت هذه الطبقة أن تتجاهل ذلك في بداية الأمر على اعتبار أن ما يحدث هو عمليات احتجاجية محدودة النطاق . إلا أن تلك العمليات بدأت بالاتساع والانتشار , وقد عملت المواقع الالكترونية عملها الفعال في هذا المجال إذ عملت كناقل للعدوى الثورية , وقامت بالدور نفسه بعض الفضائيات الداعمة للحركات الشعبية .
بدأت طبقة السلطة تشعر بجدية الموقف عندما خرج رؤوس هذه الطبقة واقروا بوجود ثغرات في إدراة الدولة وانهم عازمون على سد هذه الثغرات , بل وتجاوز بعضهم ذلك إلى درجة التماهي مع مطالب الشباب , فتبنى طروحاتهم وشعاراتهم على أمل إشاعة نوع من الطمأنينة وتهدئة الأحوال , ريثما يعدون للأمر عدته الضرورية واللازمة لمواجهته وقهره بأساليب مقبولة , مع توفر الاستعداد واظهار الإمكانية لاستخدام أساليب أخرى غيرها , إذا لزم الأمر لقمع خروج الشباب وحركتهم الاحتجاجية الثورية .
عندما وجدت طبقة السلطة نفسها في موقف لا مجال فيه للاحتواء الناعم القائم على الحيلة والمراوغة والدهاء , صار أمامها خياران لا ثالث لهما :
1- التسليم للمطالب الشبابية والشعبية المقهورة بالتخلي عن سلطاتها الاستبدادية المعهودة , وعن حالة خلودها في السلطة ؛
2- رفض هذا ومواجهة الطبقات الشعبية بالقوة فكان أن شهدت الميادين والساحات في أكثر من عاصمة عربية عمليات ومواجهات عنيفة ومسلحة بين طبقة السلطة والطبقات الشعبية المهمشة .
لقد اثبتت التجارب والوقائع , ان خيار القوة في مواجهة الحراك الشعبي , كان خياراً يفتقر الى الحكمة , ويدخل في باب الجهل من أوسع أبوابه ببعض الحتميات التاريخية وبخاصة تلك المتعلقة بحتمية انتصار الشعوب إذا خرجت بالجملة على طبقة السلطة مهما كانت قوة تلك الطبقة , فالشعوب لا تغلب إذا قررت الخروج على السلطة ونفذت هذا القرار .
إن ذلك قد حدث فعلاً من خلال ما سمي بالربيع العربي , فالنتيجة كانت محسومة سلفاً لصالح الشعوب ولا مجال للظن أو حتى مجرد التخيل أن تنجح طبقة السلطة في اعادة الشعوب بعد خروجها , إلى إطار القمقم والقمع بعد أن تكون قد كسرت حاجز الخوف وتذوقت طعم الحرية , ولذة أن يقول المواطن العادي للحاكم المستبد(لا) بعد أن عملت طبقة السلطة تساندها العديد من المؤسسات والجماعات على أن تضفي طابع القداسة والألوهية عليه . فقد صار أسهل على الفرد في الكثير من المجتمعات العربية أن يسيء إلى أقدس المقدسات من أن يسيء لا بالتصريح ولا بالتلميح إلى رأس النظام السياسي المستبد .
لقد صار إلّه أو شبه إلّه وله قداسة لا يجوز المساس بها لا من قريب ولا من بعيد , لا بالقول ولا بالفعل ولا بالاشارة , بل أن النطق باسمه يفرض على الفرد أن تسبقه عبارات التضخيم والتبجيل والا فالناطق به دون ذلك عقوبته عاجلة ثم آجلة مستدامة حيث يصنف ب ( غير موالي ) وهذا لا يختلف في معناه عن صفة خائن بمنظور طبقة السلطة , يستحق عليها العقوبة هو وأصوله وفروعه .
لقد نامت طبقة السلطة في المجتمعات العربية على هذا الوهم عقوداً طويلة , وتوهمت أن الناس بغافلين عن تصرفات أعضائها وسرقاتهم وإنحلالاتهم المسلكية والخلقية وتلذذهم بأموال الدولة وأعراض الناس . كيف لا وهم عبيدهم يصنعون بهم ما يشاؤون . فالعبد في الموروث العربي التقليدي الجاهلي , ملك لسيده , يصنع به ما يشاء , يحييه أو يميته , وهناك حكايات تروي عن بعض رؤوس القوم بأنهم كانوا في الماضي يجربون فعالية البندقية بالقتل على أحد من عبيدهم , يطلقون النار عليه ويرون النتيجة وهم فوق رأسه يتضاحكون .
بالاسلوب نفسه والبنية الأخلاقية والذهنية ذاتها , تعاملت طبقة السلطة في المجتمعات العربية المعاصرة مع الشعوب . فقد جرّب البعض منهم أسلحته الكيماوية على شعبه , كما جرّب البنادق الرشاشة الحديثة , والطائرات أحياناً . فهم لم يكتفوا بإشاعة الخوف في نفوس الناس من خلال استعراض قواتهم العسكرية التي يمتلكونها عبر ما يسمى بالمناورات العسكرية التي يقال انها لغايات التدريب على القتال ضد العدو , ولو صح ذلك لكان المنطق يقضي بأن تكون تلك المناورات سرية لا أن تذاع وتنشر عبر الفضائيات ؛ كي لا يطلع العدو على أسرار الأسلحة نوعاً وفعالية .
هذا من جهة ومن جهة أخرى , لو كان هناك عدو حقيقي غير الشعب بنظر طبقة السلطة , لكانت تلك الأسلحة قد استخدمت ضدّه , وقد مرّ على احتلال أراضي العرب عقوداً طويلة . لكنها استخدمت بسهولة وبسرعة عندما خرجت الشعوب العربية تطالب بالحرية والديمقراطية , مثل ما حدث في ليبيا , وفي سوريا وفي اليمن .
إن ذلك يؤكد أن الطبقات الشعبية كانت هي الهدف المباشر لتكديس الأسلحة العربية وإنفاق البلايين على تجديدها وتحديثها , اما الهدف الاستراتيجي فكان حماية الانظمة السياسية وإدامة استبدادها السياسي واحتكارها للسلطة والقرار إلى أمد غير محدود . تم استخدام هذه الاسلحة ضد الشعوب نفسها – مع أن الشعوب نفسها هي التي تدفع في نهاية المطاف أثمان هذه الأسلحة من قوت أبنائها .. مفارقة عجيبة , شعوب تدفع ثمن أسلحة لتذبح هي بتلك الأسلحة إذا ما فكرت أن ترفع رؤوسها بوجه طبقة السلطة , علاوة على استخدام صفقات الأسلحة (كرشوة) تقدمها الأنظمة العربية للدول الصانعة التي تحتاج أحياناً لمثل هذه الصفقات لتدعم بها صناعاتها العسكرية وتحافظ على فرص العمل لمواطنيها في تلك الصناعات.كل ذلك من أجل أن تتستر تلك الدول الصانعة على عيوب الأنظمة العربية وفسادها التي لا شك بأنها على معرفة بتفاصيل التفاصيل المتعلقة به .
ان حالة الوعي بهذا الواقع إذا ما تسربت إلى أي شعب انما تتسرب بالتدريج تبدأ بالنخب ثم تعم مع الزمن قطاعات أوسع من الشعب , فإذا ما بلغت مستوى شكلت معه رأياً عاماً , وإدراكاً جماعياً واسعاً , يصبح هذا الواقع مرفوض شعبياً بشكل عام , بشكلٍ سلمي في بادئ الأمر ثم يتحول الى رفضٍ عنيف يتمظهر بالخروج الشعبي على السلطة ... ولهذه الحالة إغراء شديد للناس تتناسب قوته طردياً مع درجة تسلط وديكتاتورية طبقة السلطة في علاقتها مع الشعب , إذ كلما كانت اكثر قسوة وقمع مع شعبها , كلما كان الخروج الشعبي ضدها مغرياً أكثر كنموذج يُقلد . فالذي يواجه ضبعاً يُعد شجاعاً يغري الآخرين بتقليده , أما من يواجه أرنباً فلا يعد كذلك ولا يغري أحداً بتقليده .
لهذا السبب لا تتراجع الشعوب إذا خرجت على السلطة الاستبدادية , لأنه إذا تراجع فريق خرج غيره , وهكذا .. حتى يعم الخروج ويتحقق التغيير الكلي لطبقة السلطة لتأتي مكانها طبقة جديدة أكثر قرباً من الناس وأكثر تعبيراً عنهم , والتصاقاً بهم وبمصالحهم.